الأبعاد والدلالات الإنسانية والتربوية للهجرة النبوية
بقلم ـــ ذ. مراد جدي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه؛
وبعد،
تحل علينا في هذه الأيام المباركة الطيبة ذكرى حدث إنساني وتاريخي عظيم غير مجرى
التاريخ العالمي، ألا وهي ذكرى الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة
في سنة 622 م، ومن الواجب على كل مسلم ضرورة الوقوف مع هذه الذكرى الغالية،
واستحضار رموزها وأبعادها ودلالاتها الإنسانية والتربوية في حياة المسلم الفردية
والجماعية وفي مصير ومستقبل الأمة الإسلامية، لأن دراسة الهدي النبوي أمر له أهميته لكل مسلم، فهو يحقق عدة أهداف من
أهمها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال معرفة شخصيته وأعماله
وأقواله وتقريراته، وتكسب المسلم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنميها
وتباركها، ويتعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فتدعوه تلك الدراسة لمحبتهم والسير على نهجهم وإتباع سبيلهم، كما أن
السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بدقائقها وتفاصيلها،
منذ ولادته وحتى موته، مرورًا بطفولته وشبابه ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على
عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجًا وأبًا وقائدًا ومحاربًا، وحاكمًا، وسياسيًا
ومربيًا وداعية وزاهدًا وقاضيًا، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيه.
ففي مكة حيث
صادرت قريش حق الناس في عبادة الله الواحد ومعرفة هذا الدين بجحودها واستكبارها
وصدها عن سبيل الله، حرم الناس الخير كلهم حيث وقفت حجرة صلدة أمام أي انتشار
للإسلام داخل مكة أو خارجها، لذلك اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة البحث
عن بيئة جديدة للدعوة تتاح له فيها إمكانيات العمل الحر في سبيل الدعوة إلى الله
تعالى ودينه، وقد قيض الله للإسلام من استنقذه من هذه الغربة والوحشة على أيدي
الوفود القادمة من يثرب إلى مكة في مواسم الحج، ومنا هنا بدأت لحظة التغيير
الفاعلة في مسار تاريخ الأمة والدعوة الإسلامية، لتتوج بحدث الهجرة النبوية
الكريمة.
أولاً: التمهيد والإعداد لها:
إن
الهجرة إلى المدينة سبقها تمهيد وإعداد وتخطيط من النبي صلى
الله عليه وسلم، وكان ذلك بتقدير الله تعالى وتدبيره، وكان هذا الإعداد في
اتجاهين، إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجر إليه.
1- إعداد المهاجرين:
لم
تكن الهجرة نزهة أو رحلة يروح فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها مغادرة الأرض والأهل،
ووشائج القربى، وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن كل ذلك من أجل
العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهد كبير حتى وصل المهاجرون إلى قناعة كاملة بهذه
الهجرة ومن تلك الوسائل:
-
التربية الإيمانية العميقة.
-
الاضطهاد الذي أصاب المؤمنين حتى وصلوا إلى قناعة كاملة بعدم إمكانية المعايشة مع
الكفر.
-
تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة، قال
تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ
وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )
[الزمر: 10].
ثم
تلا ذلك نزول سورة الكهف، وتحدثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم وعن هجرتهم من بلدهم
إلى الكهف، وهكذا استقرت صورة من صور الإيمان في نفوس الصحابة وهي ترك أهلها
ووطنها من أجل عقيدتها.
ثم
تلا ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا
ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ
أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ` الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [النحل: 41،42].
وفي
أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله تعالى: ( ثُمَّ
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا
وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النحل:
110].
وكانت
الهجرة إلى الحبشة تدريباً عملياًّ على ترك الأهل والوطن([1]).
2- الإعداد في يثرب:
نلاحظ:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسارع بالانتقال
إلى الأنصار من الأيام الأولى، وإنما أخر ذلك لأكثر من عامين، حتى تأكد من وجود
القاعدة الواسعة نسبيًّا، كما كان في الوقت نفسه يتم إعدادها في أجواء القرآن
الكريم، وخاصة بعد انتقال مصعب إلى المدينة.
وقد
تأكد أن الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله، وذلك بطلبهم هجرة الرسول الكريم
إليهم، كما كانت المناقشات التي جرت في بيعة العقبة الثانية، تؤكد الحرص الشديد من
الأنصار على تأكيد البيعة، والاستيثاق للنبي صلى الله
عليه وسلم بأقوى المواثيق على أنفسهم، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل
منى، ممن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأسيافهم لو أذن الرسول الكريم بذلك، ولكنه قال لهم: «لم
أؤمر بذلك».
وهكذا
تم الإعداد لأهل يثرب ليكونوا قادرين على استقبال المهاجرين وما يترتب على ذلك من
تبعات([2]).
ثانياً: طلائع المهاجرين:
لما
بايعت طلائع الخير ومواكب النور من أهل يثرب النبي صلى
الله عليه وسلم على الإسلام، والدفاع عنه، ثارت ثائرة المشركين، فازدادوا
إيذاء للمسلمين، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم
للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وكان المقصود من الهجرة إلى المدينة إقامة الدولة
الإسلامية التي تحمل الدعوة، وتجاهد في سبيلها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله
لله([3])
وكان التوجه إلى المدينة من الله تعالى، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما صدر
السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة، وقوماً أهل حرب وعدة، ونجدة، وجعل البلاء يشتد
على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فيضيقوا على أصحابه وتعبثوا([4])
بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة، فقال: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وهما
الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي»، ثم مكث أياماً ثم خرج
إلى أصحابه مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي
يثرب، فمن أراد الخروج فيخرج إليها».
فجعل
القوم يتجهون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن
عبد الأسد، ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، فهي أول
ظعينة قدمت المدينة، ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم أرسالاً، فنزلوا على الأنصار، في دورهم فآووهم ونصروهم وآسوهم،
وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين بقباء، قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم فلما خرج المسلمون في هجرتهم إلى
المدينة، كَلِبَت([5])
قريش عليهم، وحربوا واغتاظوا على من خرج من فتيانهم، وكان نفر من الأنصار بايعوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة الآخرة،
ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى قدموا مع أصحابه في
الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريون، وهم ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة
والعباس بن عبادة بن نضلة، وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة فلم
يبقَ بمكة فيهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر، وعلي، أو مفتون أو مريض أو ضعيف عن الخروج([6]).
ثالثا: البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس:
لقد
كان من نتائج إيمان الأنصار ومبايعتهم وتعهدهم بالنصرة أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الهجرة إلى المدينة،
كما كان من نتائج ذلك أن ظهرت ظاهرة عظيمة من التكافل بين المسلمين، ففتحت بيوت الأنصار
أبوابها وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدت لاحتضانهم رجالاً ونساء، إذ أصبح
المسكن الواحد يضم المهاجر والأنصاري، والمهاجرة والأنصارية، يتقاسمون المال
والمكان والطعام والمسئولية الإسلامية، فمن هذه البيوتات الحاضنة:
1- دار مبشر بن عبد المنذر بن زنبر
بقباء: ونزل بها مجموعة من المهاجرين نساء ورجالاً، وقد ضمت هذه الدور عمر بن
الخطاب، ومن لحق به من أهله، وقومه وابنته حفصة وزوجها وعياش بن ربيعة.
2- دار خبيب بن إساف أخي بني الحارث بن
الخزرج بالسنح([7])
نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان.
3- دار أسعد بن زرارة من بني النجار،
قيل: نزل بها حمزة بن عبد المطلب.
4- دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار،
وكان يسمّى بيت العزاب ونزل بها الأعزاب من المهاجرين.
5- دار عبد الله بن سلمة أخي بَلْعجلان
بقباء: نزل بها عبيدة بن الحارث وأمه سخيلة، ومِسْطَح بن أثاثة بن عبّاد بن
المطلب، والطفيل بن الحارث، وطُليب بن عُمير، والحصين بن الحارث نزلوا جميعاً على
عبد الله بن سلمة بقباء.
6- دار بني جَحْجبتى، والمحتضن هو منذر بن محمد بن عقبة، نزل عنده الزبير بن
العوام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بن أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت سهيل([8]).
7- دار بني عبد الأشهل، والمحتضن هو سعد
بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير، وزوجته حَمنة بنت
جحش.
8- دار بني النجار، والمحتضن هو أوس بن
ثابت بن المنذر، نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم([9]).
فهذه
المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه، وبعده،
إقامة طيبة، تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة([10]).
بهذه
الروح العالية، والإيمان الوثيق، والصدق في المعاملة، تمت المؤاخاة، وتم الوفاق
بين المهاجرين والأنصار، وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر
ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟
وأين
النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟ إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساساً لتصرف
كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين، ونصرة الدعوة، وإنها
المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق، والعمل من أجل المجموعة خوفاً من العقاب
ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعاً في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان،
واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية. فكل من أسلم، وكل من بايع، وكل من أسلمت
وبايعت، يعملون جميعهم بما يؤمرون به ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر
والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة، فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل،
فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة، وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى أن
الواحد منهم يخاف ذهاب الأنصاري بالأجر كله([11]).
إن
جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا
المعاصر، وفي الصف الإسلامي وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات
والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد، ومع ذلك تفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط،
بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهراً عدة، والمعايشة
اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم،
نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا
القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء، بل كانوا يملكون المال،
ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته جل وعلا،
فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: ( لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر:8].
كان هذا المجتمع المدني الجديد يتربى
على معاني الإيمان والتقوى، ولم يصل النبي صلى الله عليه
وسلم بعد، ولكن تحت إشراف النقباء الاثني عشر الذين كانوا في كفالتهم
لقومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى، التي
وصلت المدينة والذين استقوا جميعاً من النبع النبوي الثر، واقتبسوا من هديه([12]).
ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان
العصبية، فقد كان إمام المسلمين سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه؛ لأنه كان
أكثرهم قرآنا، فهذا المجتمع الذي يوجد فيه علية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وسادة العرب
من قريش والأوس والخزرج، يقوده ويؤمه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب
الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلامي هو نفسه حامل اللواء في الحرب،
فليس بينهما ذلك الانفصام الذي نشهده اليوم من حملة القرآن من الحفاظ، وبين
المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى
أبي حذيفة، فقيل له في ذلك، فكان شعاره: بئس حامل القرآن- يعني إن فررت- فقطعت
يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت، فاعتنقه إلى أن صرع، واستُشهد في سبيل الله([13]).
ومن معالم المجتمع الإسلامي الجديد: حرية
الدعوة إلى الله علانية، فقد أصبح واضحاً عند الجميع أن معظم قيادات يثرب دخلت في
هذا الدين، ونشط الشباب والنساء، والرجال في الدعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول
الله صلى الله عليه وسلم على قدم وساق.
ولابد
من المقارنة بين المجتمع الذي قام بالحبشة من المسلمين وبين المجتمع الإسلامي في
يثرب، لقد كانت الحبشة تحمل طابع اللجوء السياسي، والجالية الأجنبية أكثر مما كانت
تحمل طابع المجتمع الإسلامي الكامل، صحيح أن المسلمين ملكوا حرية العبادة هناك،
لكنهم معزولون عن المجتمع النصراني، لم يستطيعوا أن يؤثروا فيه التأثير المنشود،
وإن كانت هجرة الحبشة خطوة متقدمة على جو مكة، حيث لا تتوفر حرية الدعوة وحرية
العبادة، ولكنه دون المجتمع الإسلامي في المدينة بكثير؛ ولذلك شرع مهاجرو الحبشة
بمجرد سماع خبر هجرة المدينة بالتوجه نحوها مباشرة، أو عن طريق مكة إلا من طلبت
منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمة بعد أن عاشت قرونا وثنية
مشركة.
لقد
أصبح المجتمع المدني مسلماً وبدأ نموه وتكوينه الفعلي بعد عودة الاثني عشر صحابياً
من البيعة الأولى، والتي كان على رأسها الصحابي الجليل أسعد بن زرارة، والتي حملت
المسؤولية الدعوية فقط، دون الوجود السياسي، وبلغ أوج توسعه وبنائه بعد عودة
السبعين الذين ملكوا الشارع السياسي والاجتماعي، وقرروا أن تكون بلدهم عاصمة
المسلمين الأولى في الأرض وهم على استعداد أن يواجهوا كل عدو خارجي، يمكن أن ينال
من هذه السيادة حتى قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه
وسلم إليهم في المدينة.
إن القاعدة الصلبة التي بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً وجهداً في تربيتها، بدأت تعطي
ثمارها أكثر بعد أن التحمت بالمجتمع المدني الجديد، وانصهر كلاهما في معاني
العقيدة وإخوة الدين.
لقد
أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفراد وصقلهم
في بوتقة الجماعة، وكون بهم القاعدة الصلبة، ولم يقم المجتمع الإسلامي الذي تقوم
عليه الدولة إلا بعد بيعة الحرب؛ وبذلك نقول بأن المجتمع الإسلامي قام بعد ما
تهيأت القوة المناسبة لحمايته في الأرض([14]).
وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظمة القوية إلى المدينة،
والتحمت مع إخوانها الأنصار، وتشكل المجتمع المسلم الذي أصبح ينتظر قائده الأعلى
عليه الصلاة والسلام، ليعلن ولادة دولة الإسلام، التي صنعت فيما بعد حضارة لم يعرف
التاريخ مثلها حتى يومنا هذا.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيد الخلق وصفوة المرسلين وآله وصحبه
وإخوانه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق