الثلاثاء، 19 مايو 2015

رمضان وحاجة المسلمين إلى ثورة نفسية



رمضان وحاجة المسلمين إلى ثورة نفسية
مراد جدي (باحث وكاتب إسلامي)
على بعد أيام قلائل يحل علينا الشهر الفضيل شهر رمضان المعظم، شهر الله، شهر التوبة والصبر، شهر المجاهدة والمحاسبة، شهر يقبل فيه العباد على ربهم بقلوب خاشعة ونفوس راجية وهمم عالية، شهر تتغير فيه النفوس وتحسن العلاقات بين الناس، تعمر المساجد وتفرغ أماكن اللهو. ومع كل هذه الآمال يحل علينا هذا الشهر منذ سنوات والمسلمين في أسوأ حالاتهم وأتعس أوضاعهم من كل النواحي الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، يمر علينا رمضان ولا نكاد نلتفت فيه إلى أنفسنا لنحاسبها على مضى ونجدد العزم على توبة نصوح نقطع بها مع ماضي الغفلة والفتنة والبعد عن الله، ونعاهد الله على الاستقامة والالتزام بما ألزمنا به ونبتعد عما نهانا عنه. يمر علينا رمضان ولا تقف مجتمعاتنا بكل نخبها وأطرها الدعوية والفكرية والسياسية لترى هل استفادت من رمضان في تعزيز الوحدة النفسية والروحية للمسلمين واستنهضت همم من أجل البناء والتنمية والوحدة والخروج من نفق التخلف والاقتتال والخراب، حتى أضحى رمضان بالنسبة لكثير منا مجرد طقوس تؤدى بلا روح ولا إيمان ثم بعد ذلك يعود كل منا إلى حالته الأولى من الغفلة والإقبال على الدنيا ومشاكلها والانخراط في أزماتها وصراعاتها بنفس مريضة مليئة بالأحقاد والتوترات العصبية جانحة إلى اتباع أهوائها الذاتية، متكلة على أفهامها القاصرة ووعيها المشتت من أجل فهم الواقع والتعامل مع إشكالاته برؤية بعيدة عن الفهم الإسلامي الرشيد المستند إلى نفس شفافة وذات متخلقة.
لنرى حولنا عالم المسلمين اليوم ولنلاحظ ما وصلنا إليه بأنفسنا قبل أن يفعله الأعداء، لقد انخرط المسلمون اليوم في نهج تدمير ممنهج للذات وقدراتها البشرية والأخلاقية والسياسية والاستراتيجية، تدفعهم في ذلك أنفس مريضة على اختلاف أمراضها:
ـــــ نفوس مستبدة مستعبدة للبشر لا ترى أبعد من ذاتها، نرجسية وأنانية لا يهم تدمير كل شيء من أجل أن تحظى بالسلطة والثروة والامتيازات والتمجيد من جوقة المنافقين والمداحين، وتأبيد هذه الأوضاع إلى أن يأتي الأجل المحتوم بل وتوريثها عبر النسل إلى آخر الزمان.
ـــــ نفوس متغربة عن دينها وهويتها وأصالتها حاقدة على مجتمعاتها، ترى الخير للشعوب في اتباع أنماط تفكيرها وسلوكها المستوردة، وإن ولت لها الشعوب ظهرها تكشر هذه النفوس عن أسوأ ما فيها من حقد وخبث وحسد متناسية ومتعامية عن كل ما تنادي من مبادئ إنسانية، مستخدمة في كل ذلك ما تملك من جيوش الإعلام والثقافة والفن والمنظمات الحقوقية والأحزاب والتمويل الأجنبي والدعاية السوداء.
ـــــ نفوس مفتونة بالدنيا انتهازية لا يهمها إلا مصالحها الشخصية والآنية، تراها مع كل طرف رابح لا تستقر على مبدأ أو منهج، سواء تدثرت بدثار الدين أو العلم أو التصوف أو التحليل السياسي أو البحث العلمي أو النضال الحقوقي والسياسي، فتراها تلجأ إلى الكذب والنفاق والدجل من أجل قضاء أغراضها، وهي فيما بينها في صراع محموم على الامتيازات والمكاسب.
ـــــ نفوس متطرفة مغالية في الدين، ألجأتها نواقصها الذاتية إلى اتخاذ الدين غطاء للتنفيس عن مكبوتاتها، تدعي العلم وهي جاهلة، تدعي التقوى وهي فارغة، بفهمها الأعوج للدين ونفوسها المريضة تريد فرض ما تراه شريعة على المسلمين اليوم دون أي تبصر بالمنهاج المقاصدي في الإسلام، جرها نظرها القاصر وفكرها المتعنت إلى إعلان الحرب على المسلمين المخالفين لها، وارتكاب أفظع الجرائم باسم الدين، متلاعبة بالعواطف الطائفية مغذية الخلاف والشقاق بين المسلمين.
ـــــ نفوس متعصبة لذاتها ولعنصرها وللغتها ولطبقتها، لا ترى في الوجود أبعد من أناها العنصرية واللغوية والثقافية والطبقية، تقلب التاريخ والحضارة بحثا عن كل ما يعزز أطروحاتها العنصرية وتمايزها الفريد عن باقي العناصر البشرية، وكل ما يؤدي إلى الشقاق والصراع مع الآخر متجاوزة كل عناصر الوفاق والوئام.
ـــــ نفوس متضخمة الذات ترى أن الحق كل الحق فيما سطرته من أفكار ومناهج عمل، لا تنظر في الواقع إلا بمنظار ما اعتبرته الفكر المطلق المنزه عن كل تقصير وخطأ، مستندة في ذلك على اتكائها على الدين الإلهي المعصوم، متناسية أن كل فهمها للدين ليس هو الدين، معللة كل أخطائها وهزائمها وانتكاستها بالقدر والمعصية، تبحث عن نفوس تابعة جامدة مقلدة مغيبة لفكرها حتى يسهل قيادتها وسوقها كالقطيع، ترفض حرية الرأي والتفكير وإعمال العقل، تقوم على علاقة الشيخ بالمريدين وعلى فكرة انتظار الخلاص والحقبة الموعودة السعيدة.
هذه نماذج من النفوس التي تتقاسم واقع المجتمعات الإسلامية، هذه النفوس بكل أمراضها أدت بالمسلمين إلى ما نراهم فيه من اقتتال وخراب ودمار للذات وتخلف وتبعية وتقهقر على كل المستويات. فبدل أن نبحث عن الأزمات لدى غيرنا أو نلقي بها على عوامل موضوعية، لنراها في أنفسنا أولا فالله تعالى يعلمنا أن كل ما يحل بنا من نتائج أنفسنا المريضة، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فقبل أن نثور على الواقع ليثر كل طرف منا على نفسه ويحاسبها ويعالجها، خاصة من يؤهلون أنفسهم لقيادة التغيير وتصدر الأمة في إنجاز مهامها التاريخية. وها هو رمضان فرصة لإحداث هذه الثورة النفسية الروحية، والمحاور الكبرى لها ستكون على الشكل التالي:
ــــ توثيق الصلة بالله تعالى وحده، وكسر كل الحجب التي تعيق الإنسان عن القرب من الحق عز وجل، بتخلي النفس عن الاتكال على فمهما القاصر وإعجابها بالذات، وتحطيم كل الأصنام المعنوية والمادية سواء أفكار أو مذاهب أو طوائف أو مشيخات أو مصالح أو عادات، والتخلي عن كل حظوظ النفس وشهوات الدنيا.
ـــــ التخلي عن تلك الرؤى الشمولية والنظريات الحقانية التي لا ترى الصواب إلا فيما وصلت إليه من فكر ونظر ومناهج عمل، والاستعداد الدائم للمراجعة والنقد واتهام النفس بالتقصير والعجز، والبحث الدائم عن الصواب والحق دون ادعاء الوصول النهائي، وكلما تأسس فهم معين إلا ويجب عدم الثقة الكلية بنتائجه النهائية، وكل فهم لا بد أن يبنى على عدم التحيز والانطلاق من رؤى مسبقة والتجرد من كل الحظوظ ليكون خالصا لله وحده ولمصلحة الإنسان أولا وأخيرا، مع ما يستلزم ذلك من قبول الاختلاف والتنوع والتعدد على كل المستويات.
ـــــ الولاء للانتماء الإسلامي العام دون تفرقة وعنصرية والإحساس بآلام المسلمين والانخراط البناء في معالجة أزماتهم على قدر الاستطاعة، وتجنب مواقف اللامبالاة والانتهازية واستغلال الأوضاع للمصالح الذاتية الرخيصة. كما ينبغي امتلاك الحس الإنساني العميق القائم على محبة كل الناس مهما اختلفنا معهم، نسعى إلى تحقيق المصلحة الإنسانية المشتركة، ورد كل إنسان عن طريق الغي والفساد بالحسنى، وإن ينفع واستمر في العدوان وجب علينا البراءة منه مهما كانت علاقتنا به وفضحه ومواجهته بالفكر والمبادئ الإنسانية السامية (ثقافة اللاعنف).
ـــــ الاستعداد للتطوع وخدمة الناس مع عدم استغلال ذلك في أخذ مقابل مادي أو رمزي، وحسن الخلق مع الكل بدءا من الدائرة الأقرب فالأبعد وهكذا حتى تشمل كل دوائر العلاقة الإنسانية، مع استحضار التوازن في المعاملة على قدم المساواة والعدل دون النظر إلى قرابة أو مركز مادي أو معنوي إذا تعلق الأمر بالنفع العام، ولكن في حالات الإحسان الفردي يستحسن تفضيل ذوي القربى، مع ضرورة أن يكون الإنسان نافعا لذاته وأهله ومجتمعه وأمته.
ــــ امتلاك روح العمل والجد والالتزام في الحياة وتحمل المسؤولية، والتخلي عن الكسل والاتكالية والعجز والانسحاب من الواقع واللجوء إلى الأحلام والانتظار. بل لا بد من انتشال الذات من واقع التخلف وتحسين قدراتها النفسية والمادية والتواصلية والاجتماعية، ثم السعي إلى المساهمة في الواقع بإيجابية وفعالية.
ورمضان فرصة ومنحة لتحقيق كل هذه الثورة النفسية الروحية العميقة، التي تبدأ من الذات الفردية لتنتشر عبر المجتمع وتخترق كل قطاعاته بالقدوة الحسنة والعمل البناء المتواصل والتذكير الدائم، فرمضان يوثق أولا صلتنا بالله، ويعلمنا جملة من الأخلاق الطيبة من صبر وتحمل وبذل وتضحية وجدية ومراقبة ومحاسبة وتوكل. فعلينا أن ننطلق بهذه القناعة وننخرط في رمضان بنفس مقبلة ذات همة سامقة، من خلال توبة نصوح متجددة وعقد العزم على التغيير النفسي العميق والمراجعة الدورية المتكررة للنفس ومسارها، والإخلاص في كل ذلك لله تعالى وحده آملا فيما عنده من جزيل الثواب وخوفا من أليم العذاب، محبة له وحياء منه. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصيام رمضان وقيامه وأداء فروضه وسننه، بما يؤهلنا لنيل جزيل الثواب من الله، ويغير نفوسنا مما نحن فيه إلى الأفضل والأحسن وننخرط في بناء وتنمية مجتمعاتنا والنهوض بأمتنا والمساهمة في توطيد أركان الحضارة الإنسانية العالمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق