التراث الشعبيّ بين خلفيات الثقافة العالمة وانتظارات الثقافة
العامية في الحالة التونسية
د.حافظ عبد الرّحيم
كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة – صفاقس- تونس
كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة – صفاقس- تونس
المقدّمة:
هل من شرعية يكتسبها اليوم
الحديث عن التراث والعالم يعلن نهاية التّقدّم ونهاية الطّبقة العاملة ونهاية
العائلة ونهاية المثقّف ونهاية الأيديولوجيا وحتّى نهاية التّاريخ... هل أنّ
الحديث عن الثّقافة الشّعبّية اليوم يتعارض مع النّزوعات العولميّة التّوحيديّة
التي تشهدها بنية العالم ماديّا وثقافيّا؟ أليس من قبيل النّكوص إلى الوراء أن
نزيل الغبار اليوم عن مسألة الثّقافة والتّراث الشّعبيّـيْن العربيّيْن وقد عفا
عنهما الزّمن وتجاوزهما نحو تعابير ثقافيّة معولمة تنأى بنفسها عن محدوديّة
الخصوصي نحو شموليّة الكوني المشترك؟ هل دخلنا حقّا طور الأمميّة الثّقافيّة
الجديدة التي حلم بها بيار تيلار دي شاردان منذ عدّة عقود حين بشـّر بظاهرة
التّكوّر البشري أو التكوْكب المعرفي للآدميّة المعاصرة؟ وهل صار بإمكان الثّقافات
الشّعبيّة العامّيّة كما الثّقافات النّخبويّة العالمة أن تجد نفسها في مناخ عالمي
أكثر ممّا تجد نفسها في مناخ محلّي محصور؟
يبدو أنّ هناك موقفٌ نقدي
ومغاير لما هو سائد من خطاب العولمة بصدد التّداول. فالأكيد اليوم أن الحديث عن
الخصوصيّات الثّقافيّة وعن الثّقافة المحلـّـيّة والتّراث الشّعبي غدا، علميّا كما
أيديولوجيّا، أكثر شرعيّة، على اعتبار أنّ العولمة في وجهها الآخر هي تغاير وتثاقف
وتنوّع وتواصل وتحاور وتبادل بين أطراف متعدّدة ومتمايزة. وهذا ما يضفي الشّرعيّة
العلميّة والمعرفيّة على مثل هذا الطّرح مضمونا وسياقا.
صحيح أن تناول ما يسمّى
بالثّقافة العالمة قد نال وما يزال حظّا من الدّرس والتّمحيص في إطار الفكر العربي
المعاصر عامّة، لكن ما حظّ الثّقافة الشّعبيّة بما هي مكوّن من مكوّنات التّجربة
الثّقافيّة فكرا إنتاجا وممارسة في علاقة بالمعيش اليومي للنّاس، من هذا الدّرس
والتّمحيص والتّأسيس لمنهجيّة في المقاربة ورسم أهداف مرجوّة من ذلك؟ يبدو أن
المواقف في هذا الشّأن على درجة من التّنوّع والاختلاف بما لا يكون هنا مجاله
للتّوسّع. سوف نكتفي في عملنا هذا بمجرّد التّمييز بين ما يطلق عليه الثّقافة
العالمة والثّقافة الشّعبيّة، لكيْ نمرّ في مرحلة موالية إلى تبيّن العلاقة
الخفيّة بين حضور الثّقافة الشّعبيّة في الممارسة السّياسيّة لنخب بناء الدّولة
الوطنيّة في تونس خاصّة وبين الغايات المعلنة والمسكوت عنها في استثمار أو إقصاء
هذه الثّقافة من قِـبَـلِ هؤلاء الفاعلين السّياسيّين من حَمَلة الثقافة العالمة( 1* ).
ولقد وجّهتنا في هذا الاختيار فكرة أساسيّة مفادها أنّ الرّسالة الضّمنيّة التي
يحملها هذا البرنامج الإذاعي أو المتلفز هي التّعبير عن الموقف الرّسمي الذي تحمله
الثّقافة العالمة من الثّقافة الشّعبيّة والصّورة التي اختارتها الأولى للثّانية
وتريد أن تقدّمها حولها.
انطلاقا من الأسئلة
السّابقة وضعنا افتراضيْن اثنيْن هما كالآتي:
لقد تعاملت الثّقافة
العالمة مع الثّقافة الشّعبيّة تعاملا نخبويّا انتقائيّا نفعيّا.
إنّ حديث الثّقافة
الشّعبيّة عن نفسها هو حديث المثقّف عن الشّعب أي حديث السّلطة ومثقّفيها عن
الشّعب.
في سوسيولوجيا الثّقافة
الشّعبيّة: التّعريف وإشكاليّة العلاقة:
1) من
تعريف الثّقافة إلي تعريف التّراث:
لا مراء في أنّ مفهوم
الثّقافة من المفاهيم التي لم تحض بإجماع، حتّى أنّ محاولة تعريفه كانت محلّ تنوّع
فاقت ما يمكن انتظاره في تعريف مفهوم ما. لكن يبقى الأكيد في المقابل أيضا أنّ هذا
المفهوم على زئبقيته ينتمي في النّهاية ومن وجهة نظر العلوم الإنسانيّة عامّة، إلى
مجال السّلوك البشري في بُعديْه الفردي كما الجماعي. وإذا ما قاربنا الثّقافة من
زاوية أنثروبولوجيّة فإنّنا نجد أنّها تقوم في مقابل الطّبيعة أي في مقابل كلّ ما
هو فطري وغريزي. إضافة إلى كونها من وجهة نظر اثنوغرافيّة فهي جُـمَـاعُ المعتقدات
والعادات والقيم والنماذج السلوكية المميّزة لمجموعة اثنيّة مقارنة بمجموعات
إثنيّة أخرى( 2).
إن من أهم الخصائص المميّزة
لأي تركيبة ثقافية هو جمعها بشكل مفارق ولكن تكاملي بين العمومية والخصوصية.
فالثقافة تركيبة عامة بالنظر إلى تواجد عناصرها في كل مجتمع، وهي أيضا تركيبة خاصة
بالنظر إلى امتلاكها لنمط خاصّ في ممارسة هذه التراكيب وأشكال التعاطي معها( 3).
إن الحديث في مصطلح الثقافة
يجرنا تباع إلى طرح مصطلح التراث الذي بات متأكدا اليوم أنه من المصطلحات
المستحدثة في الثقافة العربية وتعني كلمة( patrimoine ) في الغرب، خيرات أو
ثروة أو ملكية موروثة عن الأب. لذلك يلجأ القانون في الغرب إلى التمييز بين
مصطلحين آخرين هما الرأسمال الاقتصادي (capital économique) والإرث الأبوي (capital
patrimonial) الذي يعكس المعنى المقصود في المصدر اللاتيني. وفي حين أن
الرأسمال الاقتصادي يخضع لمبدأ الربح ويلتزم فكرة الاستثمار ويحتكم لقانون العرض
والطلب فإن الإرث الأبوي يخضع لمنطق مختلف نسبياً يجعله أكثر اقتياداً بالأعراف
الاجتماعية والعادات والتقاليد، نظراً لقيمته المادية والمعنوية على حد سواء.
لاشك أن اتساع مجالات
التراث وتباينها( 4* )
يجعل من محاولة تحديد هذا المفهوم عملية صعبة المراس، فإذا كان في الأصل يعبّر عن
الإرث الذي يتسلـّمه الآباء وينقلونه للأبناء ويكون متصفا أساسا بصفة القدسية فإن
اشتراط حضور هذه الصفة يبقى اليوم محل جدال(* 5* )
خاصة وقد تمّ الانزياح بالمفهوم عن عمقه القدسي désacralisation ودنيويته وإزالة السحر
عنه désenchantement طبقا للعبارة الفيبرية الشهيرة اعتبارا
لانتقاله من » مرجعية عائلية إلى مرجعية وطنية ذات خلفية وظائفية إذ يمثل الواجهة
التي تعرض من خلالها الأمم إنجازات عبقرياتها الوطنية وتعكس ذاكرتها الجماعية « ( 6).
ومن المسلم به أيضا أن
للتراث إلى جانب قيمته الاستعمالية قيمة تبادلية رمزية تواصلية من حيث أن المنتجات
التراثية في تنوّعها لا تقتصر على تحقيق الرغبات الآنية بل تحقق حاجات تواصلية
اجتماعيـة سـواء بين الأفراد في ما بينهم أو بين الجماعات. ومن هذا المنطلق اعتبر GREIMAS (A) ( 7)
أن التراث يمثل نسق اتصال ولغة من العلامات الدالة.
فالتراث، كما بيّن فريديريك
معتوق، موقف ذهني متكامل من الآخر ومن العالم، يختلف من بنية اجتماعية إلى أخرى،
ويتمتع بوظيفة محددة تنبع من رؤية أشمل تخدم هذا الموقف. علماً أن الموقف والوظيفة
يتناسقان في ما بينهما على المستوى الداخلي من ناحية، ويتميزان، بحدة أو برفق، أو
حتى بعصبية، عن العالم الخارجي من ناحية أخرى( 8).ذلك
أن للتراث عند الإنسان مدلول ديني واجتماعي يصل حدّ القدسية خلال الحياة اليومية
للإنسان العادي. وهذا ما جعل الباحث جاك لوغوف يعتبر في كتابه: «من أجل عصر وسيط
آخر»، خصوصاً في الفصل المعنون: نحو أنثربولوجيا تاريخية، "أن التراث ليس ما
يعتقده المرء، وإنما يكمن في النوازع غير الواعية التي تتحكم به".
وبالحصيلة فالتراث هو كل ما
وصل الأمم المعاصرة من الماضي البعيد أو القريب سواء تعلق الأمر بماضيها هي أو
بماضي غيرها من الشعوب أو بماضي الإنسانية جمعاء.
إنه أولا: مسألة موروث، وهو
ثانيا: مسألة معطى واقع يصنف إلى ثلاثة مستويات.
1- مستوى مادي يتمثل في
المخطوطات والوثائق والمطبوعات والآثار والقصور والمعابد والأضرحة.. إلخ.
2- مستوى نظري يتحدد في
مجموعة من التصورات والرؤى والتفاسير والآراء التي يكونها كل جيل لنفسه عن التراث
انطلاقا من معطيات اجتماعية وسياسية وعلمية وثقافية تفرزها مقتضيات المرحلة
التاريخية التي يجتازها أبناء ذلك الجيل.
3- مستوى
بسيكوسوسيوانثروبولوجي والمقصود به هو تلك الطاقة الروحية الشبيهة بالسحر التي
يولدها التراث في المنتمين إليه حيث يجري احتكاره من قبل نخبة أو جماعة أو فئة قصد
استغلاله في ميدان التوجيه السياسي والتعبئة الإيديولوجية نظرا لما يزخر به التراث
من مفاهيم وتصورات وأفكار وعقائد وأساطير وعادات وتقاليد وفلكلور ومثل ومبادئ وقيم
تملك سلطة قوية على مخاييل الأفراد والجماعات التي تعجز عن مقاومة تأثيره عليها.
يطرح كل مستوى من المستويات
السابقة مشكلة يمكن التعبير عنها كما يلي:
أ- المستوى الأول يطرح
مشكلة تقنية بحتة تتمثل في طريقة تحقيق المخطوطات والوثائق وكذلك في كيفية الحصول
عليها ليتم نشرها وتوزيعها على الدارسين بالإضافة إلى المشاكل المتعلقة بترميم
القصور وإجراء الحفريات والأبحاث عن الآثار المطمورة في باطن الأرض.
ب- المستوى الثاني يطرح
مشكلة معرفية تتمثل في كثرة وتضارب التأويلات التي أعطيت للتراث خلال عصور ومراحل
تاريخية متتالية. فهل نتعامل معها كما هو جار الآن بوصفها جزءا من التراث، أم
نتعامل معها بوصفها مجرد اجتهاد وتأويل بشري للتراث؟
ج- المستوى الثالث (هو الذي
يهمنا في هذا السياق) ويطرح مشكلة الاستغلال الإيديولوجي لهذا الرأسمال الرمزي أي
التراث من قبل التيارات الإيديولوجية والقوى السياسية والاجتماعية المتصارعة
وتوظيفه من أجل الوصول إلى مواقع السلطة والنفوذ داخل المجتمع والدولة عبر دعم
رأسمال رمزي بهدف ضمان مزيد من حظوظ الصعود في سلم التراتب السياسي.
انطلاقا من المستويات
الثلاثة المذكورة آنفا، يمكن القول بأن بناء تعريف للثقافة/التراث الشعبي ينهض على
جملة من الثنائيات المتقابلة. فإذا كان مفهوم التراث يعني أولا الملكيّة المشتركة
بين أفراد تجمّع إنساني ما بالنظر إلى تجربتهم المشتركة والمتنوّعة على أنّها ثروة
يتأكد الحفاظ عليها وصيانتها وانتشالها من النسيان، بما هو إرث يشدّهم إلى الأرض( 9)،
فإن صفة الشعبي هي في مقابل النخبوي وهي أيضا في مقابل الرسمي كما أن الثقافة
الشعبية في مقابل الثقافة العالمة. يُضاف إلى كلّ ذلك أن التراث الشعبي يحيل إلى
كل ما هو غير ممأسس في مقابل الثقافة الممأسسة. كما أن الشعبي يتصف بصفة الجماعية
ويأتي في مقابل الفردي. فالممارسات الثقافية الشعبية تنجز من قبل الشرائح
الاجتماعية الواسعة على خلاف الإنتاج الثقافي الفردي المُـتـَّـسِـم بنخبويته.
فكأنما التراث الشعبي هو تراث العامة المنفلت من القيود والضوابط الرسمية التي
ترسمها الخاصة، لذا يكون نقطة الافتراق بينهما ويكون مطروحا على مالك السلطة
الباحث عن الشرعية استعادة هذا الحقل واستثماره في هذا المضمار. يقول المنصف وناس:
» فالرواية الشعبية تطلق العنان لنفسها متحدّية الظروف السياسية والتاريخية عكس
الخيال الذي يبقى حبيس قوالب ومعايير ثابتة وقليلة التغيّر « ( 10).
ولعلّ أبرز عنصر في تعريف
الثقافة الشعبية عموما هو إدماج الشعب فيها على اعتبار أنه منتج ومستهلك لِـمَا
أنتج من أنماط في التعبير الفني. كما تأكد أيضا أن الثقافة الشعبية مرتبطة عضويا
بالواقع الموضوعي للشعب من حيث أنها تعبّر عن همومه وآماله. ومن هذا المنطلق تغدو
صفة الشعبية راجعة إلى التصاق الموصوف (التراث أو الثقافة) بما هو إنتاج بواقع
الفئات التي صاغته وحوّلته إلى منظومة قائمة الذات.
2) إشكالية العلاقة بين
الثقافة العالمة والثقافة العامية:
من الجليّ أنّ للعلوم
الإنسانية والاجتماعية إضافة هامة في مستوى استرجاع كل تلك الترسّبات أو البقايا
التي عجزت النظم المعرفية والاقتصادية والديمغرافية عن استيعابها، بهدف إخضاعها
لمسار الدراسة وتبيّن وظائفها في الاشتغال العام للنسق الاجتماعي. لقد بيّنت
الدراسات السوسيولوجية الحديثة قيام علاقة معرفية بين إدراك ما هو مشترك وبين
الإدراك العلمي كما بيّن GARFINKEL (H) ( 11)،
حين أوْلـَـى أهمية ذات اعتبار للحسّ المشترك في دراسة الأنشطة الممارسة والظروف
العملية في سياق المعيش اليومي. ومن بين التعابير الثقافية المختلفة نجد تلك التي
يتداولها أبناء مجتمع ما وطنيا أو محلـّـيا دون القدرة على استيعابها بالدراسة من
قِـبَل ممارسي الثقافة الرسمية العالمة في بعدها النخبوي بالمعنى
الترانساندانتالي.
وفي ما يبدو فإن ابن خلدون
كان قد سلك المسلك نفسه والحال أنه كان من أشدّ الباحثين عن المعقولية التاريخية
التزاما بالعقل. لكنْ جعلُ التاريخ موضوعا معقولا لا يعني البتّة أنه من صنع أعمال
وآثار عقلانية. فلقد بات متأكدا أن الاهتمام بالتاريخ وبإرثه هو اهتمام بقواه
النشيطة التي لم يدوّنها المكتوبُ الذي نظنّ أنه هو وحده المشهود له بالعلومية( 12).
وفي هذا السياق يفصح عبد العزيز لبيب عن رأيه معتبرا أن إهمال الذاكرة وإسقاطها من
الأعمال التاريخية تحت عنوان العقل والمعاصرة يقودان لزوما إلى:
التغافل عن النزعات المضمرة
أو الظاهرة المدونة في السيرورة التاريخية، علاوة على ما يتضمّن هذا الإهمال من
انتقائية مستندة إلى الغائية التاريخية (أي نفي كل ما لا يتواءم مع التصوّر الغائي
للتاريخ).
وَهْمٌ معرفي مفاده أن
الأحداث التاريخية وكأنها نتاج للعقل وحده، رغم أن هيغل كان قد أكد أن للدراما
التاريخية دوافع وذوات فردية فاعلة هي مزيج من العقلاني واللاعقلاني، بل أحيانا
غلب الثاني الأوّلَ.
في هذا السياق يتأكد
التداخل المعرفي بين الثقافة العالمة والثقافة العامية بحيث يغدو الخلق الثقافي
غير
منفصل عن البنى الاجتماعية
والمعيش اليومي للناس وما تختزنه ذاكرتهم. فعلى سبيل المثال حاول أحمد خواجة خلال
أطروحته للحلقة الثالثة حول الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية فهْم علاقة
الترابط الممكنة بين الخلق الثقافي والبنى الاجتماعية والمعيش اليومي من جهة وبين
الذاكرة الجماعية من جهة أخرى. والهام في رأينا أن الباحث سعى إلى طرح أسئلة عديدة
من بينها السؤال المتعلق بالوسائط أو الروابط الممكنة بين الثقافة الشعبية وثقافة
النخبة، أي بين الثقافة العامية والثقافة العالمة. وهو ما مهّد لطرح السؤال الوليد
المتمثل في الدواعي التي تدفع الثقافة العامية إلى قبول وضعية الخضوع والتبعية
والتهميش أحيانا وإلى التمرّد وإثبات الذات أحيانا أخرى؟ ومن المنطلق نفسه، حاول
الباحث إبراز العلاقة الممكنة بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، من حيث أن
الثقافة الشعبية هي مجال الذاكرة الجماعية في حين أن الثقافة العالمة هي مجال
كتابة التاريخ بالنسبة لذاكرة يسهل أن يتشابك داخلها ما هو تراثي شعبي مع ما هو
سحري وديني وسياسي.
يحيلنا التمييز الآنف بين
النمطيْن الثقافيَيْن من الناحية السوسيولوجية إلى ذلك التمييز الذي كان أقامه HALBWACHS
(M) ( 13)
بين الذاكرة والتاريخ معتبرا أن الذاكرة حيّة وتحمل بصمات الخصوصية والحميمية
والذاتية وتمنح مجموعة بشرية ما إمكانيات حقيقية للتواصل مع ما فيها، فتبدو في
لحظات استحضارها للذاكرة وكأنها تبرز للعيان في فترات تجلّ للحقيقة، في حين كان
التاريخ من حيث هو ثقافة عالمة، وما زال مكوّنا معفيّا متعاليا كونيّا ومتخطيا
لحدود الحيّز الخصوصي والخاص والمحلي والذاتي للأفراد والجماعات.
إلا أنّ الباحث De CERTEAU ( 14)
لن يذهب في الاتجاه التقابلي الذي ذهب فيه قبله HALBWACHS ، على اعتبار أنه نبّهنا
إلى علاقات الهيمنة والتبعية بين الثقافتيْن العالمة والعامية أي بين التاريخ والذاكرة
والجماعية، وهي هيمنة تبرّر موضوعيا في رأيه كتابة تاريخ علمي وموضوعي. في حين أن
الذاكرة الجماعية محكومة بالتعدّد والتنوّع والتناقض والتغيّر المستمرّ، بحيث تسعى
خلال فترة ما من فترات تطوّرها إلى التوحّد مع ثقافة النخبة المهيمنة على خلفية
أنها ثقافة تحظى بالشرعية والاعتراف.
وإزاء هذا التقابل المضني
بين الذاكرة الجماعية والتاريخ أي بين الثقافة العالمة والثقافة العامية أكد
الباحث NORA (P) ( 15)
أنه لا يهمّ التمييز بين الذاكرة الجماعية والتاريخ، بل الهام هو تلك الروابط التي
يسقطها الفاعلون الاجتماعيون عليهما. ويُنظر إلى المؤرّخ على أنه ذلك الفاعل الذي
يسعى من خلال كتابته للتاريخ وتدوين الذاكرة الاجتماعية (فردية كانت أو جماعية)
إلى إنتاج معانٍ ودلالات ورموز لها اتصال مباشر بالواقع الذي أفرزها.
كما اهتمّ خليل أحمد خليل
بمساحة حضور الشعبي في الثقافة العربية المعاصرة بهدف "بناء معرفة جديدة على
صعيد الثقافة الشعبية العربية المعاصرة"( 16)،
فمرّ تباعا إلى طرح سؤال محوري يمكن صياغته كالتالي: هل الثقافة الشعبية العربية
هي فعلا، من زاوية سوسيولوجية، دون الثقافة الرسمية السياسية أو الدينية المقدسة؟
لا شك أن الإجابة عن السؤال الإشكالي المذكور في رأي الباحث تبقى "رهينة
استقصاءات ميدانية تتراوح بين الثقافي اللاّمتشكل والثقافي المتشكل والمتبلور
بعضُه في المسرح والسينما والمسلسلات التلفزيونية وفي الغناء الشعبي أو في العادات
والتقاليد العربية الآخذة في التواصل من جهة وفي الانمحاء من جهة ثانية لصالح
عادات وتقاليد عالمية أجنبية وافدة"( 17).
ألا تُـعَدّ إذن سوسيولوجيا
الثقافة مبحثا أساسيا وضروريا بغية تفكيك الخطاب السائد حول التراث الشعبي؟ الأكيد
أنّ هذا الخطاب من حيث هو عملية اجتماعية لا تحكمه فقط أهداف معلنة بل إن الخفي
والمسكوت عنه من الغايات يحتاج إلى الكشف بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الباث
والمتلقـّي واستراتيجيات الخطاب وأهدافه وأدواته من خلال بعد الذاكرة مثلما يؤكـّد
جاك ريفال( 18)
أي من خلال ذلك الماضي الذي لم يشأ أن يمضي طبقا للعبارة الشهيرة لهنري روسو.
فالتراث تجربة تاريخية تصاغ مع الزمن وتعاد صياغتها بشكل دوري طبقا لمبادئ الهوية
والتواصل والاشتراك في المصير( 19).
ففي إطار الثقافة الشعبية
يتفاعل الفنـّـي والإبداعي والاجتماعي والعقائدي... بشكل يتحوّل معه الفعل الثقافي
إلى رهان بالمعنى الواسع للكلمة، رهان ثقافي، رهان اجتماعي، رهان اقتصادي، وهو
أيضا رهان سياسي، السياسة هنا باعتبارها إيديولوجيا أو بما هي سلطة. فالملاحظ أنّ
كل ما ما يُرَاد تعميمُه يُعْمَد إلى إضفاء صفة الشعبية عليه خاصة بالنسبة إلى
عقلية يسهل فيها تشبيك الشعبي مع السحري الأسطوري الذي يشكل القاع العميق للبناء
الثقافي وحتى المعرفي العربي عامة.
إن الثقافة الشعبية في ما
تثبث التجربة إنما هي نشاط يدعمه فاعلون ذوو رهانات مختلفة ومتعارضة أحيانا. وهم
فاعلون متغيّرون في الزمن. فالتجربة تؤكد أن أطراف اللعبة الاجتماعية بقدر ما أنه
يجمعون فعليا في المراهنة على الثقافة الشعبية من أجل استهداف الجماعات الشعبية في
وعيها ولا وعيها على حدّ سواء بقدر ما أن هؤلاء الأطراف يختلفون في صيغ التعامل مع
هذه الثقافة وأشكال استثمارها طبقا لمواقعهم الفئوية ومراتبهم المهنية أو الطبقية.
فتغدو الثقافة الشعبية ثقافة تبطن في الآن نفسه إمكانيات واسعة في المحافظة كما
قدرات هامة على التجديد( 20)،
بالنظر خاصة إلى الأهداف الآنية والاستراتيجية للدولة. وربما ترجع هذه المراهنة
على الثقافة الشعبية في إضفاء هامش أوسع من الشرعية على الفعل السياسي إلى أن
الثقافة الرسمية بما هي ثقافة نخبة يعوزها الفعل في مقابل أن الثقافة الشعبية أكثر
رواجا واستهلاكا وتأثيرا. وعلى هذه الخلفية يغدو التجاوب عامة بين الثقافة العالمة
والثقافة العامية إنما يتمّ لأسباب تسويقية. يقول خليل أحمد خليل "إن الشعبي
حاوية ثقافية ينطلق منها النخبوي والشعبوي الموسوم بالسوقي والديماغوجي
والأرستقراطي... وفي المقابل يسعى النخبوي إلى إبقاء الصلات قائمة بينه وبين جذوره
الشعبية أو أصوله الاجتماعية كموضوع بصرف النظر عن التمرتب الاجتماعي الطبقي للنخب
الاجتماعية الثقافية أو السياسية ذاتها... فلا بدّ للنخبة بمعنى القلة المميّزة من
تماسّ أو تقارب مع الكثرة الساحقة حينا والمسحوقة أحيانا. وبموازاة الحراك
الاجتماعي يقدّم نفسَه حراكٌ ثقافي متنوّع قطباه شعبي نخبي، وفي كل لون منهما
شِـيَاتٌ Nuances أو ممايزات تستدعي التفاكر (التعارف)
وتستبعد التناكر (التجاهل المتبادل)( 21).
فالاحتفالات الشعبية التقليدية على سبيل المثال هي في النهاية بمثابة المهرجانات
أو هي أداة ضبط وتعديل وتعبئة وترفيه من خلال إظهار أهمية إنجازات الدولة
ومشاريعها والتأسيس لعوامل اقتصادية جديدة تساهم في النهوض بالمنطقة مجال إجراء
الاحتفال.
يثبت تاريخ التجربة
التونسية في البناء الوطني أن الدولة قد تدخلت خلال العشريّتيْن الأخيرتيْن من
القرن العشرين بثقلها المادي والتنظيمي بهدف توظيف التراث الشعبي في التعبئة
السياسية عبر تشجيع الفاعلين في المجال على ما يسمى بإحياء التراث وتجديده (توظيف
عناصر تراثية خلال مرحلة النضال ضدّ المستعمر، توظيف المهرجانات الدينية للتعبئة
السياسية لتحوّل بعض الزّوايا والاحتفالات الشعبية المرتبطة بها (الخرجة، الزردة،
الحضرة، النوبة والسطمبالي...) إلى مهرجانات وجمعيات ثقافية، بشكل حوّل الثقافة
الشعبية إلى فلكلور قابل للتسويق السياحي والاقتصادي وحتى السياسي، أي إلى مادة
فرجوية بالمعنى الاستهلاكي والتعبوي للكلمة.
كما أثبت المؤرخون
والمهتمون للموضوع أن التراث الشعبي قد تعرّض إلى حالة من التلاشي نظرا لما أصابه
من اختلال وظيفي ومن لا اشتغال Dysfonctionnement على إثر اكتساح الثقافة
الحديثة التي تبنـّـتها نخب البناء الوطني المنبهرة آنئذ بهيمنة مبادئ الفلسفة
الوضعية التي ترى العقلانية والحداثة في ضرورة الفصل بين المعرفة العالمة والمعرفة
العامية التي تعود في النهاية إلى ما يسمّى في السوسيولوجيا بالحسّ المشترك الذي
يغالطنا دائما ويمنعنا من بناء معرفة موضوعية لذا لا بدّ من إقصاء هذه المعرفة
العامية وبالتالي الثقافة الشعبية، والتعلـّـق بالمعرفة العالمة الحديثة التي
تبثـّـها وسائل الاتصال الجماهيرية. يضاف إلى ذلك عامل حضاري جوهري يتصل بالتحوّلات
التي مسّت بعمق مُجْمَلَ البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التقليدية طبقا
لمسارات خاصة في التحديث الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لخّصها الحبيب الدرويش في
» ما أفرزته من مؤسسات وقيم وعلاقات اجتماعية جديدة مقابل تراجع البنى التقليدية
بادّعاء افتقارها إلى المرونة الكافية للتأقلم مع التحوّلات في ظل وضع من الازدواج
والتصادم بين التقليدي والحديث « ( 22).
لقد تبيّن أن ثقافة المشروع التحديثي في تونس سعت جاهدة إلى إخضاع بنى المجتمع
التونسي إلى منطقه السياسي ومشروعه التحديثي استنادا إلى جملة من القوانين
والمؤسسات التي تكفلت بنشر الثقافة "التحديثية" بالتعويل على المؤسسة
التعليمية التي تحمّس الناس لثقافتها حتى غدت تمثل حلم الطبقات الشعبية وأملها في
الحراك الاجتماعي.
هذا مع ظهور تعارض بين قيم
الثقافة المدرسية وقيم المحيط على الهيئة التي دفعت بالنمط القيمي الأول إلى العمل
على إقصاء الثقافة الشعبية بتقديمها حكايات وأقاصيص مأخوذة من المأثورات القولية
الأجنبية أو الآداب الأوروبية. كما لعبت المؤسسة الإعلامية دورا محوريا في نشر
خطاب الثقافة العالمة وتقريبه من الناس وفرض شرعية "الثقافة الوطنية"
بما هي ثقافة موحَّدة وموحِّدة لكل التونسيين على اختلاف مواقعهم وانحداراتهم
الاجتماعية. فعلى سبيل المثال انتهت الباحثة بدرة بشير إلى استنتاج أساسي مفاده أن
الدولة التونسية الحديثة لم تتردّد في استثمار المخيال الاجتماعي، واسطتها في ذلك
الأعمال الدرامية التلفزيونية، في تمرير إيديولوجيتها التحديثية. ولإثبات ذلك قامت
الباحثة المذكورة بتحليل عمليْن تمثيليّيْن متلفزيْن ربما كانا الأكثر انتشارا في
فترة ما من فترات تطور عملية البناء الوطني وتطور التمثيل التونسي واللذيْن سعيا
إلى استثمار المكونات التراثية من أجل تكريس الخيارات التحديثية في مستوى نحت
معالم العلاقات الأسرية كما أرادتها إيديـولوجيا الدولة الوطنية. هذان العملان هما
"أمّي ترَاكِي" و"هْنَانِي وحْمَيْدَاتُو" من حيث هما عملان
يعكسان جوانب واسعة من مجتمع الستينات والسبعينات إضافة إلى أنّ "أمي
تراكي" أُعيد بثـّه خلال 1986 . ولقد حظي هذان العملان برضى وإعجاب واقتناع
المسؤولين من أعلى مستوى. لذلك حاولت الباحثة تحليل العمليْن المذكوريْن معتمدة
البنية النشوئية القائمة على البحث عن التشابه البنيوي بين بنية العمل ومضامينه
وأغراضه وبين البنية الاجتماعية والصورة التي تريدها عليها الأيديولوجيا القائمة( 23)،
من خلال استثمار مكوّنات الثقافة الشعبية في تنوعها بغاية ترسيخ نموذج مجتمعي(نمط
علائقي، نمط أسري، نمط من السلطة، نمط من الخطاب...) كما تنتظره نخب السلطة
القائمة آنئذ. كذلك فإن تحليل مضمون البرنامج التلفزي "ديوان الفنّ
الشعبي" الذي أنتجه وأخرجه أحمد حرز الله وامتدّ بثه لسنوات عديدة يؤكد
التوجّه نفسه. صحيح أن العمل غلب عليه الطابع الوصفي النقلي على حساب القراءة
والتأويل وذاك مبرّر بالنظر إلى الغائيات التي وضع من أجلها البرنامج. لكن محاولة
استنطاقه سواء في مستوى مادته الفرجوية أو في مستوى مادته التحليلية المتجلية في
التعاليق والتدخلات التي تتخلل الحلقة منذ الاستهلال إلى الخاتمة مرورا بأواسطها
تؤكد جميعا حضور الغائيات الفرجوية الاستعراضية مقرونة بالغائيات الوظيفية.
فالرسالة الضمنية التي يحملها البرنامج تمتدّ على مستويين، مستوى أول يبغى فلكلرة
الممارسة الاحتفالية وتحويلها إلى مادة فرجوية يتمتع بمشاهدتها المتفرّج التونسي
عامة وأبناء الجهة موضوع الحلقة من ناحية ولكن ربّما استثمرت مضامين الحلقات عبر
فلكلرتها وبثها كمادة للتسويق السياحي فعلى سبيل المثال تكرّرت عبارة وظيفة
ومشتقاتها ومرادفاتها على لسان منتج البرنامج في عينة الحلقات الستّ(6) التي مثلت
مادة دراستنا تسع (9) مرّات. إلى جانب أن بعض الحفلات تخللها حضور بعض السياح خاصة
من غير العرب. إلا أن التوظيف لا يقف عند حدّه السياحي بل إنه يدرك في رأينا عمقه
الإيديولوجي. فلا شك أن للبرنامج رسالة إيديولوجية مستهدفة ضمنيا من بثه. إنها
إيديولوجيا الحداثة التي يتبناها روّاد بناء الدولة الوطنية ويدافعون عنها ويرومون
تبليغها ونشرها في أوساط العامة ولو بتوظيف مكونات لا حداثية، نشدانا لشرعية سلطة
ومشروع حداثي ما يزال غضا ويواجه صعوبات في أن يجد مكانا داخل منظومة معرفية
يتشابك فيها العقلاني مع المخيالي وحتى الأسطوري.
وضمن الاختيار الإيديولوجي
نفسه عملت السياسة الثقافية على تدعيم هذه الوصاية التي تمارسها الثقافة العالمة
على الثقافة الشعبية وذلك عبر مراقبة هياكل الإنتاج الثقافي واحتكاره بشكل أدى إلى
تراجع عديد الأنشطة الثقافية "الشعبية" في مختلف تعبيراتها، بحيث غدت
الثقافة على حدّ عبارة أحمد خواجة "امتلاكا للمعرفة المدرسية ومقياسا منطلقه
ارتقاء الفرد في السلم التعليمي" أما الثقافات الشفوية والعامية فكان
"مآلها التهميش والتهجين والفلكلرة لتعارض منطقها وأهدافها مع ثقافة
الحداثة"( 24).
فمن المعلوم أن التراث
الشعبي ظاهرة نمت في علاقة بالمعيش اليومي لعامة الناس الذين عجزوا خلال فترات
تاريخية مختلفة عن أن يجدوا في الثقافة الرسمية أو ما سمّيناه بالثقافة العالمة
التي تنتجها النخب ما يعبّر عن طموحاتهم وانتظاراتهم ويشحن وجدانهم. هذا إلى جانب
عجزهم عن التعاطي مع هذه الثقافة العالمة لغويا وذوقيا. وكان أن انتهت العلاقة بين
الطرفيْن خلال مرحلة أساسية من مراحل تطوّرها (العلاقة) إلى حصول القطيعة بين
المثقفين كمنتجين وبين عامة الناس في حياتهم اليومية واهتماماتهم ومشاغلهم
وانتظاراتهم. بحيث انكفأ كلّ طرف على ذاته وانطوى باحثا عن خلاصه الذاتي، فخلق
مجاله الخاصّ في الفكر والثقافة. وهذا ما دفع بمثقفي الثقافة العالمة إلى أن يجدوا
ملاذهم ومتعتهم في ما أنتجه الموروث الثقافي للعصور الزاهية وانبروا يردّدونه
ويتمتعون بلذّة التغزّل بمفاتنه ومواطن الإبداع فيه، وهم من كلّ ذلك إنّما ينشدون
تعويضا عن خلاص مفقود. وهو ما أدّى إلى حالة من القطيعة مع عموم الشعب. يقول عبد
العزيز الأهواني » صار أدباء العربية(بما هم هنا جزء من مثقفي الثقافة الشعبية، من
خلال ما أنتجوه من في ميادين القصص والخرافات والشعر بأنواعه الثقافة الرسمية)
لأسباب كثيرة في عزلة أو شبه عزلة عن جموع الشعب. وهنا اتسع المجال أمام الآداب
المختلفة. وكان الازدهار الذي يعرفه مؤرّخو هذه الفنون ابتداء من القرن السادس
الهجري وما تلاه « ( 25).
وبناء عليه انتشرت الثقافة
الشعبية في المدن والأرياف والبوادي وفي الأزقة والأحياء الشعبية، وقد بدت أكثر
بروزا وانتشارا في الأحياء الشعبية منه في الأحياء الرّاقية وداخل الحواضر. كما أن
من الخصائص المشتركة أيضا أن مصادر هذه الثقافة الشعبية في معظمها شفوية تتناقلها
تلقائيا الأجيالُ جيلا عن جيل في ثنايا معيشهم اليومي في شتى مناحي الحياة.
والجالب للانتباه في هذا المسار هو محاولات هذه الثقافة الشعبية بمختلف تعبيراتها
الانفلات من عقال الخطاب التحديثي النخبوي وتحديداته على اعتبار أنها رأت فيه
خطابا متعسّفا على الذاكرة الجماعية ومشوّها للخلق الثقافي الشعبي وعائقا يحول دون
تحرير الجسد من ضغوطات الخطاب الرسمي من حيث هو خطاب توحيدي احتوائي فارض
لرؤيته(الاحتواء، الفلكلرة، التهميش الإعلامي...). ففي دراسته التي تحاول إقامة
علاقة تفسيرية بين التحولات الاجتماعية والذاكرة الجماعية منطلقه في ذلك الأغنية
الشعبية نبش أحمد خواجة في مظاهر تفاعل الثقافة الشعبية مع المستوى السياسي بهدف
تبيّن كيفية تعبير رؤية العالم المصاغة انطلاقا من الأثر الفني عن هاجس السلطة
وأهدافها المعلنة وحتى المسكوت عنها فانتهى إلى ارتباط الأغنية الشعبية بمحرّضات
الواقع اليومي طبقا لهواجس كل مرحلة ومقتضياتها ارتباطا وثيقا. كما انتبه في الآن
نفسه إلى أن المشروع التحديثي ساهم مساهمة فعالة في تقلص المفعول الترويجي للثقافة
الشعبية المرتبطة بالواقع اليومي والحاملة لمتاعبه واختناقاته( 26).
فعبّرت الأغنية الشعبية في رأي الباحث بشفافية ووضوح عن رؤية الفئات المقصية
للعالم بما هي رؤية حائرة متوجسة خائفة، خصوصا وأن الدولة الوطنية ذات المنزع
الحداثي في تونس وأشاعت نظرة متحفية فولكلورية للثقافات الشعبية"( 27)
ويضرب الباحث في ذلك عديد الأمثلة من أغاني "المزاودية" كظاهرة فنية
ثقافية تضخمت بالتوازي مع تنامي القاعدة الاجتماعية للمدن المضادة والفئات
المدينية الهامشية وتراجع حضور السلطة المطلقة للدولة. وكذا الشأن بالنسبة لثقافة
الزوايا حيث يثبت تاريخ تونس الحديثة أن اختيار حلّ الأحباس الجماعية استهدف في ما
استهدف إضعاف القاعدة المادية للطرق الصوفية إلى جانب ما تعرّض له رموز هذه الطرق
من محاربة علنية ومضمرة خاصة في الفضاءات المدينية بشن حملات إعلامية مضادة لهذه
الثقافة وإقصائها عن مجالات الفعل الثقافي أو قصر دورها على الجانب الفلكلوري
الاستعراضي (منع الاحتفالات العامة من فداوي وفصلات وغناية البدو، تحجير خرجات
الزوايا، هدم العديد من الزوايا،...).
ولعل أهم ما يمكن أن
يستنتجه المطلع على هذه الأعمال هو هذه العلاقة المتوترة بين الثقافة الرسمية التي
اختارتها الدولة الوطنية ونخبها وعملت على نشرها في السّتّينّات والسّبعينات وبين
الثقافة غير الرسمية التي كانت عرضة لمحاولات إقصائية وتهميشية فصوّرت نفسها في
صورة المظلوم المعتدى عليه من قبل الآخر الظالم الذي هو ضمنيا الثقافة العالمة لذا
لم تتوانَ الثقافة العامية عن التهديد والدعوة إلى الاعتبار واستحضار حكم الزمان
كما قالت الأغنية آنذاك:
(الظلم عمرو قصير \ مهما
أيامو تطول).
وفي المقابل فإن الثقافة
الرسمية لم تتردّد في محاصرة هذا النمط الفني ومنع انتشاره والتعريف به وترويجه
عبر وسائل الإعلام السمعية والمرئية والمكتوبة من منطلق أنها ثقافة
"موازية" "منفلتة من عقال الرسمي والشرعي والجدّي والمفروض"
إلى جانب كونها ثقافة محظورة ترمز إلى الانحلال والذوق الرديء( 28* ).
التراث
الشعبي الهوية وإمكانيات التوظيف:
انطلاقا ممّا سبق إذن هناك
تساؤل لطالما طرح نفسه بإلحاح وما يزال، وهو تساؤل إشكالي يتعلق بالتراث الشعبي في
علاقته بالهوية لدى المثقفين العرب عامة خاصة إثر الخروج من الاستعمار، واكتشاف
الوجه الآخر للغرب ودخول مرحلة بناء الدولة الحديثة، حيث سيتمثـّـلُ هؤلاء البناةُ
للدولة نمطا جديدا في علاقتهم من أنهم مثقفون بمسار التحديث والعقلنة والمركزية
مقارنة بتمثلات العامة لهذا الماتريس الحضاري.
إن التحديد الحقيقي للهوية
العميقة يتمّ داخل حقول ثقافية (بالمعنى الأنثروبولوجي) متعدّدة ومختلفة إلى درجة
أنّ مِـنْ فاعلي هذه الحقول مَـنْ توصّـل إلى احتلال منصب السيادة في عمقها السياسي.
وبالتالي توصّل إلى احتكار الثقافة خدمة للمشروع السياسي بما في ذلك التراث الشعبي
على خلفية أن "الشعبي هو ما ينعت بالاختلاف والثانوية من طرف ثقافة
سائدة".
ألا يغدو إذن الحديث عن
التراث الشعبي بالأساس حديثا سياسيا، اعتبارا لسعي الدولة الوطنية إلى استثمار
التراث من منطلق لعب دور الحارس الأمين له بهدف تحقيق التعبئة السياسية الجماعية
عبر إضفاء المعقولية والمشروعية الاجتماعية للاختيارات الاجتماعية والاقتصادية
السياسية وهو ما يسجله عبد الوهاب بوحديبة في سياق حديثه عن الحرف ومكانتها في
تونس المستقلة بقوله"إن استرجاع مقاليد البلاد من قبل وطنيين ووصول طبقة
وطنية جديدة إلى سدّة الحكم مالكة لوسائل جديدة والمتميّزة عامة بذوقها وحتى
بتفاخر البعض منها والقدرات الديماغوجية للبعض الآخر، إلى جانب التعلق الواقعي من
قبل الجميع تقريبا برمزية شخصية وطنية مستردّة كل هذا سيدفع نحو العودة إلى
المنتوج الحرفي بحثا عن الأمن والبهجة ورغد العيش" ( 29)
. بمعنى أنّ كلّ محاولة في تحليل التراث الشعبي من حيث هو ثقافة مهمّـشة والسعي
إلى تبيّـن عقلانية وجمالية هذه الثقافة المهمّـشة إنّما هي محاولة تحمل في
ثناياها صراعا اجتماعيا لا ينتهي بين أنماط الفعل السياسي السائد ومختلف الحقول
الثقافية الأخرى، حيث تسعى كلّ سلطة سائدة إلى احتكار الاعتراف لها وبها من قِـبَل
الثقافة الشعبية عامة ومن ضمنها التراث الشعبي طبعا. نقول هذا ونحن نستحضر أمامنا
تجربة الزعيم الحبيب بورقيبة في تونس في استثمار التراث الشعبي من خلال أمثلة
عديدة منها ما ينتمي إلى مجال اللباس ومنها ما ينتمي إلى مجال الغناء والموسيقى.
ففي مجال اللباس يذكر تاريخ الحركة الوطنية في تونس أن بورقيبة وأنصار الحزب
الدستوري الجديد تبنـّوا ما سمّي آنذاك بمعركة الدفاع عن ارتداء الحجاب باعتباره
رمزا للهوية الوطنية في مواجهة المدّ الاستعماري الفرنسي، كما أنّ ارتداء الشاشية
بالنسبة للرجل استحال في العرف السائد آنذاك إلى رمز انخراط في حركة التحرّر
الوطني في صفوف الحزب( 30).
أما في مجال الموسيقى والغناء فإن المعروف عن بورقيبة حرصه الشخصي على التعاطي مع
الإرث الشعبي حين يسخّر أشكالا من الممارسات الثقافية الشعبية احتفالا بعيد ميلاده
الذي يعدّ مناسبة كما يقول المحلـّلون لإضفاء الشرعية على سلطته في بعدها
الكاريزماتي( 31* ).
كما نستحضر هنا تلك الممارسات الثقافية الشعبية التي توظـّـفها السلط القائمة في
جلّ البلاد العربية( 32).
كما أنّ من مظاهر الوصاية التي تمارسها الثقافة العالمة على الثقافة العامية هو ما
نراه من إمكانيات توظيف اقتصادي للتراث الشعبي بشكل واسع ومتزايد، خاصة مع تنامي
الأنشطة السياحية التي غدت أحد أهم الرّهانات لولوج عالم معوْلـَم أين يتمّ
الانزياح بالوظيفة الأصلية والواقعية وإعدام الطبيعة الجوهرية للمعطى الثقافي
الشعبي وإفراغه من عمقه الرمزي، لصالح الغـُنـْمِ أو التكسّب الاقتصادي وتسليع
التراث الشعبي عبر عمليات من التزويق والتعديل والتضخيم والإثارة والإبهار
والتسلية والمتعة والأسطرة.
ومن هذه الزاوية استحالت
المجتمعات المقصودة سوقا فولكلورية في خدمة متعة السائحين، في بلدان العالم
الثالث. بحيث أصبح » يُنْـظر إلى السياحة أحيانا على أنها نوع من الاستعمار الجديد
أو أنها نوع من الغزو الثانوي الذي يأتي بعد غزو عسكري حقيقي أو بعد تغلغل اقتصادي
« ( 33).
وهو ما انتبه إليه الأستاذ بوحديبة حين أكـّد » أن هذا المجتمع الموسوم بالاستهلاكي
هو بصدد الاستثراء على حساب المستعمَرات السابقة، وذلك عبر سعيها للاستيلاء على
المنتوجات الحرفية لبلدان إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. على اعتبار أن وراء هذه
العملية تحويل وجهة Détournement للثقافة دون الإفصاح عن ذلك « ( 34).
والأكيد أن عمليات توظيف
التراث لم تقتصر على المجاليْن السياسي والاقتصادي السياحي، بل شملت المجالات
الاجتماعية فمسّت مسارات التنشئة الاجتماعية وعمليات الإدماج (الاحتواء) الاجتماعي
فعلى سبيل المثال نجد أن البرنامج الإذاعي الشهير "قافلة تسير" إلى جانب
تخصيصه حصصا للمناسبات الوطنية ولعيد ميلاد الرئيس وشفائه من المرض أو عودته من
الخارج فإنه كان يخصص حصصا للأعياد الدينية ونزول الغيث وحث الناس على العمل في
تونس التي يحلو فيها العيش، وكذلك الدعوة إلى تحسين الهندام وحسن المظهر. كما
احتلّ محور النهوض بالمرأة ودورها في المجتمع قسما من البرنامج.
هذا التوظيف المتعدّد
الوجوه وهذه العلاقة غير المتكافئة بين السلطة السائدة والتراث الشعبي تجعل الحديث
عن الثقافة العالمة باعتبارها ثقافة رسمية نموذجية ومرجعية... إنّما هي ثقافة
السلطة في مقابل الثقافة العامية المختزلة في بعْديْها الفنّي (الفلكلوري)
والأنثروبولوجي. وبناء عليه يعرَّف التراث الشعبي انطلاقا من التمثلات التي يحملها
أصحاب الثقافة العالمة السائدة والرسمية تعريفا نخبويا لا على أنه جملة الأنظمة
الرّمزية والقواعد الاجتماعية والقواعد المنظّمة للحياة الجماعية على الهيئة التي
ورثتها عليها هذه المجموعات عن أسلافها وتمثـّـلتها في حياتها المعيشة يوميا
ومارستها ورسّختها في أذهان ومخيال الأجيال المتلاحقة كما تعرّفه العلوم
الاجتماعية وخاصة التاريخ والسوسيولوجيا والاثنولوجيا.
يسمح هذا بإقرار حقيقة أن
اللاّتكافؤ في التبادل الثقافي واختلاف التّمثـّـلات للتراث الشعبي العربي ما بين
تصوّرات حَمَـلـَةِ الثقافة العالمة وتصوّرات ممارسي الثقافة الشعبية هما في
النهاية لاتكافؤ واختلاف ذو طبيعة سياسية تتعلـّـق بالأساس بآليـّـات السلطة وأنماط
ممارساتها.
من هذا المنطلق إذن يغدو
الحديث عن التراث الشعبي حديثَ الثقافة السائدة عن التراث الشعبي من حيث هو مضامين
شفوية من ناحية وممارسات تقليدية من ناحية ثانية. وتتميّز جميعها بلا عقلانيّتها
بالنظر إلى عقلانية الثقافة الرّسمية السّائدة كثقافة عالمة، وهذا ما يجعل تعامل
الأولى مع الثانية تعاملا نخبويا انتقائيا اختزاليا ونفعيا(في حدود الحاجة). وهو
ما يؤكـّد أن حديث الثقافة الشعبية (أو خطابها) حول/عن التراث الشعبي (أو قل حديث
التراث الشعبي عن نفسه) ليس هو حديث الشعب عن نفسه، بل في حقيقته حديث المثقف عن الشعب
وأساسا حديث مثقف السلطة عن الشعب باعتباره في آن ملاحِـظا ومحلِّـلا لتلك الثقافة
ثم مدافعا عن حديث السلطة في التراث الشعبي وأشكال توظيفها له.
لكن ألا يمكن الحديث أيضا
وفي الآن نفسه عن صراع وساطة Médiatisation سياسية بين المثقف
"المثقـّـَـف" والشعب "اللاّ مثقّف"؟ مهما تكن الإجابة يبقى
المتأكـّد أن هذا الصراع هو في عداد المكبوت الذي لا تعبّر عنه إلا المطالبة
بدمقرطة الثقافة عامة. أما دفاع المثقف عن الثقافة الشعبية وعن التراث الشعبي
إنّما هو وسيلة غير مباشرة لتأكيد علوية ثقافته التي لا تولـّدها مجريات الحياة
الاجتماعية في خضمّ الممارسة اليومية للمعيش اليومي للناس على خلاف الثقافة
الشعبية في مختلف تشكـّلاتها عبر التاريخ ومختلف أنماطها الشفوية أو المكتوبة.
وفي الحقيقة فإن المثقفين
طرحوا مسألة التعاطي مع التراث الشعبي من زوايا مختلفة بما يجيز الحديث عن أنماط للمثقفين
طبقا لأشكال تعاطيهم مع مسألة التراث الشعبي، خاصة إذا ما استحضرنا الخلفية
الأيديولوجيّة الموجِّـهة لهذا المثقف. فمن المثقفين من اتخذ من العودة إلى التراث
الشعبي واستعادته وإحيائه وسيلةً لمواجهة التحوّلات الهيكلية التي شهدتها
المجتمعات ما بعد الاستعمارية خاصة في مستوى التطوّر التكنولوجي وأنساق التحضر،
ليظهر علماءُ الفلكلور المنتمون في الأصل إلى المناطق القرَويّة والبنيات
التقليدية، ويعلنوا تباعا خطاب الدفاع عن التراث الشعبي وتجميعه إزاء ما يعاينون
له من حالات خطر اندثار فيرتدي خطابُهم مسحة نوستالجية بالعودة المُـمَجّـِـدَة
للأصالة الصافية الطاهرة. لكنّ هذه العودة ليست بغاية الانتقال بهذه الثقافة إلى
طور الممارسة بل فقط بغاية الاحتفاظ بهذه الثقافة وفلكلرتها( 35* )
تعويضا عن حنين لأمّ مفقودة ومثالنا في هذا الشأن تجربة محمد المرزوقي(* 36* )
أحد أهم مدوّني الثقافة الشعبية في تونس وغيره من أعلام هذه المدوّنة التراثية
الشعبية من السابقين من أمثال عثمان الحشائشي والصادق الرزقي وحسن حسني عبد الوهاب
أو من اللاحقين من أمثال عبد العزيز العروي ومحي الدين خريّف وغيرهم كثير.
يعكس الفصل بين التراث
الخطاب والتراث الفعل والممارسة في الحقيقة نزوعات إيديولوجية تريد ترسيخ حقيقة
هامشية التراث وثانويته، إذ ينحصر دوره في حدود بعده الأداتي أي في حدود ما يحققه
من أهداف ورهانات النخب صاحبة السلطة. فالمجتمع الحديث، حتى وإن بدا أنّه حارب
مؤسسات الثقافة الشعبية وحاول دحرها على خلفية لا عقلانيتها بما هي عامل شدّ إلى
الوراء على حدّ عبارة أحد روّاد الدولة الوطنية المغربية في مرحلة ما، فإن هذا
المجتمع الحديث نحا نحو إعادة استثمارها والتحوّل بدورها من دور طقوسي اعتقادي إلى
دور مادي في المعنى الواسع للكلمة، فلقد استقطب الحفل مثلا من حيث هو ممارسة للفعل
الثقافي الشعبي وبفعل الشحنة القدسية التي يحملها المجموعات الاجتماعية والنخب
صاحبة السلطة الفاعلة، فتحوّل إلى رهان ننتظر منه أهدافا إستراتيجيّة عامة في شتى
المجالات.
هذا التعامل الأداتي مع
التراث الشعبي والذي لا يخلو من نزعة براغماتية في موقف هذه الفئة من روّاد بناء
الدولة الوطنية، يأتي مختلفا عن موقف حاملي موقف القطيعة مع التراث الشعبي، مِمّنْ
اتخذوا من الحداثة الغربية نموذجا يحتذى لتحقيق التقدّم بشكل يستدعي القطع مع
علامات التخلـّـف واللاعقلانية في شتى تجسيداتها والتي من بينها التراث الشعبي
الذي رأت فيه على حدّ عبارة غالي شكري: » أيديولوجية تضبط أوتار السلوك الفردي والاجتماعي
ضبطا محكما بعيدا عن روح العلم « ( 37)،
بحيث أنها أيديولوجيا تقوم على طرفي نقيض مع إيديولوجيا الحداثة، بحيث أنها تتعارض
مع شروط التحديث والعصرنة وتحرير الفكر وحتى تحقيق الوحدة في شتى مستوياتها،
بالنظر إلى » أن التشبّـث بالتراث هو تكريس لنظرة تحقيريّة وللنزعة القطرية
المتعارضة أصلا مع البعد القومي والثقافة القومية وعودة إلى السّكونيّة وإذكاء
للطائفية في إطار الثقافة العربية الرّاهنة « ( 38).
مهما اختلفت المواقف سواء
إزاء أشكال حضور التراث الشعبي مقارنة بالثقافة الرسمية أو إزاء أشكال التعاطي مع
هذا التراث وهامش حضوره داخل مجال الفعل ووظيفته بالنسبة لمجموعة إثنية ما، فإنه
يبقى متأكدا أن تلك الثنائية المتقابلة بين التحديث والتقليد إنما هي ثنائية معيبة
ولا تخلو من شحنة أيديولوجية بحكم تعسّفها على واقع ثري ومتنوّع بشكل يمنعها من
تحديد الخط الفاصل بوضوح بين التقليدي والحديث(أين ينتهي التقليدي ومن أين يبدأ
الحديث). ومن هذا المنطلق فإننا مدعوّون حقيقة إلى التحفّظ إزاء تطبيقها على واقع
عربي له طبقا للعبارة الفيبرية الشهيرة "خصوصياته المميّـزةّ".
الخـاتـمـة:
إن ما شهده التراث الشعبي
العربي من حالات انزياح وتحوّل وتوظيف سياسي واقتصادي، يمكن أن يؤدي إلى تجفيف
الثراء الرمزي المميّز للذاكرة الجماعية في شتـّـى مستويات الانتماء الثقافي
والاجتماعي، فيكون التجانس والنّمذجة Standardisation ونفي التنوّع كما إلغاء
الثراء الدلالي. ويبقى الغائب الوحيد في كل ذلك هو التناول العلمي والطرح الواعي
لمسألة التراث في علاقته بالمعيش اليومي للفاعلين الاجتماعيين في شتى المجالات
الرسمية منها وغير الرسمية كما في علاقته بالتحولات الهيكلية التي يشهدها العالم
اليوم، بحثا عن التواصل وتأكيدا للخصوصية في تنوّعها وثرائها، على اعتبار البعديْن
الداخلي والخارجي الحاضريْن خلال مسار إنتاج التراث. إنها معادلة تجمع بين أبعاد
ممارسة التراث بما هي ممارسة للهوية الجماعية وممارسة التراث بما هي ممارسة
اقتصادية (انفتاح وتثاقف وتسويق). يقول Gérard ALTHOBE في هذا المضمار » إنّ
إنتاج التراث يُعتبر داخليا حيث ينتمي لمجال الهوية وهو يكتمل في إطار ممارسة
الهوية الجماعية. لكنّه يُعتبر أيضا خارجيا وذا معنى تجاري وذلك من خلال نظرة
السائح الذي يساهم بدوره في بناء الهويّات الجماعية « ( 39).
صحيح أن استعمالات التراث
والذاكرة أو المخيال الجماعي قد تنوّعت عبر التاريخ بدءا من الوظيفة اللـّـعبية
الترفيهية Ludique والوظيفة التعبيرية وصولا إلى الوظيفة
العلاجية( 40)
(الوظيفة الفنية الثقافية)، لكن ذلك لا يجب أن يَحْجُبَ عنـّـا حقيقة التوظيف الاقتصادي
(السياحي) من ناحية والتوظيف السياسي في أبعاده المتعدّدة. فالتاريخ يخبرنا أن
استعمالات التراث في مستوى ما يحمله من أبعاد رمزية
ودلالية قد اعتـُمِـدَتْ
إمّا من أجل نحت هويات ثقافية أو بهدف نشر وترسيخ اختيارات فكرية وإيديولوجية
محدّدة. فالدول المعاصرة نزعت نحو إنتاج الماضي على الهيئة التي تجعله قابلا
للمشاهدة والاستهلاك وتحقيق المتعة وإضفاء الشرعية أيضا على الفعل السياسي، حتى أن
بعض المؤرّخين اختصّوا في إعداد الأساطير التراثية وإماطة اللثام على بعض
الممتلكات المشتركة للأمة لغايات سياسية( 41).بحيث
لم تتردّد السياسة خلال ممارستها لعبتها (مقاصد وأهداف) في الاستناد إلى الثقافة
من خلال استهداف الجماعات الشعبية سواء في مستوى وعيها أو في مستوى لاوعيها.
أمّا استحضار التراث على
خلفية أنّه ليس مجرّد موضوع فولكلوري، بل من حيث هو مكوّن أساسي من مكوّنات
الهوّية الثقافية في شتى أبعادها الفكرية والقيمية والمثلية والنفسية والرمزية
والمادية فإنّه اقتصر على مستوى الخطاب دون الفعل فلم يتحوّل التراث الشعبي بشكل
واضح وعملي إلى سلاح في مواجهة التحديات المعاصرة. ويبقى الإشكال الأكبر حينما
نروم طرح مسألة التراث والثقافة الشعبية عامة هو كيف السبيل إلى إرساء صيغ عملية
تسمح بالفصل منهجيا وإدراكيا ما بين الثقافي من ناحية والإعتقادي (الديني
والسياسي) من ناحية وهو التحدي المطروح علينا اليوم في مواجهة ما يطرأ على العالم
اليوم من تحولات هيكلية؟
42* سيكون مرجعنا الأساسي في الدراسة برنامجان أحدهما تلفزي والثاني
إذاعي عُـنـِيَ كلاهما بالتراث الشعبي التونسي منذ بداية الثمانينات بالإذاعة
والتلفزة التونسيتان أولهما البرنامج الإذاعي "?افلة تسير" الذي نال ما
نال من الشهرة خلال نهاية الستينات وبداية السبعينات. أما ثانيهما فهو البرنامج
التلفزي "ديوان الفنّ الشعبي". مرجعنا بالنسبة للبرنامج الأول الدراسة الطريفة
التي أعدها الباحث أحمد خواجة بعنوان الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية من
مرآة الأغنية الشعبية (سلسلة أضواء، دار أليف- منشورات البحر المتوسط- كلية
العلوم الإنسانية والاجتماعية تونس، 1998)، التي منها استخرجنا المادة الأولية
للتحليل. أما بالنسبة للبرنامج الثاني (ديوان الفن الشعبي) فقد وفّر لنا مادتـَه
الأولية مسجلة على قرص مضغوط ( DVD ) المديرُ العام للتلفزة التونسية وبمساعدة
الصديقيْن إيمان الكشباطي ووحيد براهم لهم من الباحث جميعا كل الشكر.
*********************************
3* هذا رغم أننا درجنا عامة وبشكل مفارق أن نسند للتراث بما هو مخيال
جماعي مقدس صفة المشترك رغم تعدده بتعدد الفئات المنتجة له، وتغيّره بتغيّر
الانتماءات الطبقية والمواضع الدينية بالنظر إلى مسارات التراكم التاريخي والسياسي
والديني والرمزي. فالاشتراك كان في ما هو ايديولوجي سياسي محض أما ما هو معيشي
وحياتي أي أنثروبولوجي فكان محلّ اختلاف وتنوّع لاشكّ. يمكن العودة هنا إلى ما كتبه
المنصف ونـّـاس في المقال نفسه ص: 15.
4* * معجميا يعلـَم الجميع أن لسان العرب جعل لفظ تراث مرادفا للفظ أصل.
يقال هو في إرث صدق أي هو في أصل صدق. كما يقال هو على إرث من كذا أي هو على أمر
قديم توارثه الآخر عن الأول. والإرث من الشيء أي البقية من أصله. كما يُـعَـرّف
مصطلح تراث Patrimonium في القانون الروماني طبقا لما ورد في موسوعة
Encarta على أنه سلعة متوارَثة يتمّ تحويلها من
الآباء والأمهات نحو الأبناء.
8جاك ريفال، عبء الذاكرة ، ترجمة حسن بن سليمان، الحياة
الثقافية العدد 110، السنة 24، ديسمبر 1999،تونس، ص34.
9المنصف ونّاس، إبداع الخيال وإبداعية المخيال (قراءة في الخطاب
الإبداعي العربي) ، مجلة الحياة الثقافية، العددان 64 و65، السنة 1992، تونس،
ص17.
Studies in ethnomethodology , Englewood Cliffs, Prentice Hall, 1967.
11عبد العزيز لبيب، في الجمالية الشفاهية، البطل والتمثل الجمعي
للتاريخ ، المجلة العربية للثقافة، العدد 36، السنة 18، 1999، ص 57.
Ouvrage
posthume : la mémoire collective , PUF, 1950.
15خليل أحمد خليل ، نقد العقل السحري- قراءة في تراث الثقافة
الشعبية العربية ، دار الطليعة، ط 1، 1998، بيروت، ص8.
18لوسات فالنسي، التاريخ الوطني، تاريخ المعالم محطات الذاكرة
(ملاحظة نقدية) ، ضمن: حوليات تاريخ العلوم الاجتماعية، العدد 6، السنة 1995،
ص1275.
19اُنْـظـُـرْ في هذا المضمار دراسة Isabelle RUIZ حول التحضـّر والهويات
المحلــّـية في السّباسب التونسية.
RUIZ (I), Urbanisation
et instrumentalisation des identités culturelles locales dans les steppes de Tunisie centrale, in:Gravari
(M) & VIOLIER (B et Ph), Lieux de cultures ,Cultures des lieux, P.U.F de
Rennes, 2003.
21الحبيب الدرويش، التراث الشعبي في المجتمع العربي بين حقليْ
التنظير والممارسة ، ورقة قـُـدّمت لندوة التراث الشعبي العربي وحدة الأصل
والهدف، المجلس الأعلى لرعاية الآداب والعلوم والفنون بالجمهورية العربية السورية،
مارس 2005، ص4.
22 B'CHIR (B): Contrôle social,
famille et théâtre ; in:les relations interpersonnelles dans la famille maghrébine,
Actes du
colloque, Tunis 27- 30 octobre 1986, Cahier du C.E.R.E.S, série psychologie, n°6, Université de
Tunis, 1988 .
24عن: الحفناوي عمايرية، الشيخ الولي أحمد بن عروس 778 هـ/1373م-
868 هـ/ 1463م أزجاله وأثره في الثقافة الشعبية العربية ، مجلة الحياة
الثقافية، العدد 110، السنة 24، تونس، ديسمبر 1999، ص: 11.
27* يورد الباحث أحمد خواجة مثالا معبّرا مفاده أن ظهور المغني الشعبي
الهادي حبّوبة على شاشة التلفاز يوم 9 أفريل 1988 قد أثار زوبعة إعلامية ختمت
بإقالة المدير العام للإذاعة والتلفزة التونسية ومنع برنامج "ألوان"
وإبعاد منتج البرنامج. كما عبّر ممثلو الثقافة العالمة عن احتقارهم واستهجانهم
لهذا النمط الموسيقي. م. ن، ص227
28 BOUHDIBA (A), L'artisanat
tunisien contemporain , in: Culture et société, publication de l'université de Tunis, 1978, p118.
30* يورد أحمد خواجة في بحثه الطريف أمثلة عديدة في هذا المضمار اخترنا
من بينها للتدليل إنشاد سلامية الشيخ الناصر العبدلي:
يا ما أسعدها بعزّ جهادك \
تـونـس يا بـطل الحـرّية
ميـلاد الخضراء ميلادك \
يوم انزدت انزادت هـي
شـعبك يا بـطل الأبـطال \
عـذبـتـه بـروح الـنضال
بشـرتـه في قصـر هلال \ بـمـيلاد
الـعـزة القـوميـة
يـا حـامي المـلة والـديـن \
شـيـدت عـلى سـاس متين
إن شـاء الله فـلـسـطـيـــن
\ مـنصـورة بـالـبـورقـيـبية
31في خصوص العلاقة بين التراث الغنائي والفعل السياسي في إطار التجربة
العربية يمكن العودة مثلا لمقال عزيز السيد جاسم، إشكالية العلاقة بين السياسة
والغناء في الحياة العربية ، الفكر العربي المعاصر، العدد 39، حزيران 1986،
مركز الإنماء القومي بيروت، خاصة الصفحة 92.
32 AISMER (P)& PLUSS (C): La Ruée vers le
soleil: le tourisme à destination du Tiers monde , Editions
L'Harmattan, Paris, 1983, p 35.
35* * في الواقع أن ما كتبه هذا الرّجل واسع بشكل كاد يتميّز به عما
قدّمه غيره في إطار تجارب أخرى إلى يبدو معها وكأنّ ما قدّمه يتجاوز حدود إمكانيات
الجهد الفردي إبداعا وتدوينا وتحليلا. إضافة إلى أن ما كـُـتِبَ حوله هامّ كمّا
ونوعا أيضا أستحضر هنا الجهد الموسوعي ذا الصبغة الأكاديمية الذي كان قدمه الأستاذ
محمد العزيز نجاحي بعنوان: محمد المرزوقي من القبيلة إلى الوطن ، دار سحر
للنشر، ط1، تونس، 1997.
° نحو سوسيولوجيا
للثقافة الشعبية ، دار الحداثة، بيروت، 1979، ص7.
° مساحة حضور الشعبي في
الثقافة العربية المعاصرة ، المجلة العربية للثقافة، س18، ع36، مارس 1999،
ص،ص: 44- 55.
38ALTHOBE (G), Productions
des patrimoines urbains , in : JEUDY (H.P), (S/D), Patrimoines en folie, Editions de la Maison des sciences de l'Homme, Paris , 1990, p: 269.
BOUHDIBA (A), Place et
fonction de l'imaginaire dans la société arabo- musulmane , in:
Culture et société, publication de l'université de Tunis, 1978, pp:50-51.
40Voir à ce propos: B EGAIN (P), Le
patrimoine: Culture et lien social , Editions des Presses de la fondation nationale des sciences
politiques, Paris 1998, p:98.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق