الاثنين، 18 مايو 2015

أيّـــــة مشروعيّــــــة للعــودة إلى التــراث ؟



أيّـــــة مشروعيّــــــة للعــودة إلى التــراث ؟
د.الحبيب درويش
أستاذ علم الاجتماع- جامعة صفاقس
نائب رئيس الجمعية التونسية لعلم الاجتماع
تشير عبارة "إحياء التراث" 1 إلى توجّه راهن في تونس تتقاطع فيه مقاربات الجهات الرسمية مع اتجاهات الحسّ الشعبي العام، هذا التوجّه يقوم على قناعة إعادة الاعتبار للتراث الشعبي المحلي و تعزيز حضوره في المعيش الاجتماعي للأفراد و تبعا لذلك تعدّدت الهياكل و المؤسّسات ذات الصلة بمختلف عناصر التراث، فضلا عن تنظيم الملتقيات و المهرجانات المحتفية بالتراث و المثمِّنة لعودته .
و لعلّه من الجائز طرح السؤال الآتي إزاء هذا التوجّه : هل يُعتبَر السّعي إلى النّبش في المخزون الثّقافي للمجتمعات المحليّة في هذا الزّمن بالذّات وسيلة من وسائل الدّفاع عن الذّات والهويّة الوطنية أمام مسار عولمة الثقافة وزحف ثقافة العولمة ؟ أم أنّ هذا السّعي هو نشازٌ وعودةٌ إلى الوراء وإعاقةٌ لعجلة التّاريخ وسيرورة التّقدم وتكريسٌ لمقولة أنّ الأموات يحكمون العالم ؟ لقد طرحنا التّساؤل وقد نُجيز لأنفسنا في خاتمة هذه الورقة محاولة الإجابة.
1- الأســــــس الفكريــّة لعودة الــتّراث
من المعلوم أنّ مفهومَيْ الحداثة و التّحديث قد رُوِّج لهما بقوّة خلال القرن العشرين وكان حضورُهما قويّا فكرًا وممارسةً في كلّ المجتمعات المتقدّمة منها أو حديثة العهد بالاستقلال، هذه المجتمعات التي تسارعت فيها أنساق التحديث ولو بمسارات مختلفة.
ومن المعلوم أيضا أنّ الفكر الحداثي قام على مفاهيم مرتبطة بالعقلنة والتّرشيد والعلمنة و كان من نتائج مسارات التحديث هو حصول عمليّات تحويل وتعديل للقوى الماديّة للمجتمع وللجوانب السياسيّة والتشريعيّة والثقافيّة وهو ما أفضى بدوره إلى تعديل في الشخصيّة و تحديد في مستوى الصّفات الاجتماعيّة للجماعة وتغيير في هيكل المفاهيم الثقافيّة السّائدة .
ولكن ، منذ الرّبع الأخير من القرن العشرين ظهر توجّه فكريّ راج بقوّة في المجتمعات المتقدّمة صناعيّا يركّز على ما هو محلّي وتراثي، ما هو معيشٌ أي ما هو مرتبط بالممارسات اليوميّة للنّاس مهما كانت بساطتها، هذا التّوجّه يوسَم بتيّار ما بعد الحداثة Poste modernité . والمتمعِّنُ في الأسس المعرفيّة لهذا التيّار يفهم أنّه لا يمثّل مرحلة تجاوزت الحداثة و انتقلت بالبشريّة إلى مرحلة أكثر تطوّرا و تعقيدا و ابتعادا عن أشكال الحياة التقليديّة، لقد انطلقت هذه المرحلة في الواقع من نقدٍ للحداثة التي ترى أنّها همّشت كلّ ما هو خصوصي و محلّي و تراثي بدعوى التطوير و التّحديث وحصرت البشر في حدود المصالح الماديّة و العقلانيّة المفرطة و الفرديّة الضّيقة وحتّى النّرجسيّة ، إذن فكر ما بعد الحداثة يبحث في إمكانيّة ردّ الاعتبار إلى ما هو عاطفي ،جماعي، محلّي و تراثي.
و ِوفق هذا التوجّه صار الحديث متداوَلا في حقول مختلفة حول التصنيع المحلّي Ethno industrialisation ، ولعلّ المبدأ الأساسي لشركة "سوني" اليابانية يُعتبَر أفضل ترجمة لهذا المفهوم:" فكّرْ محلّيا و نفّذ ْ عالميّا، فكّرْ عالميا و نفّذ ْ محليا " 2، كذلك كثـُر الحديث عن الطبّ المحلّي Ethnomédecine وهو يعني إمكانية بناء معرفة طبية علمية انطلاقا من تجارب القدامى، ونجد -غير هذيْن المفهومين- عدّة مفاهيم أخرى نستوحي منها تثمين التراث المحلّي و جعله منطلقًا و منتهًى.
أمّا في علم الاجتماع فقد ظهر تيّار سوسيولوجي يُعرف بالأتنوميتودولوجيا Ethnométhodologie قدّمه" هارولد ?ارفنكل" Harold GARFINKEL في كتابه "دراسات في الإتنوميتودولوجيا " سنة 1967، هذا التيّار سعى منهجيّا إلى إعادة الاعتبار إلى مقولة " الحسّ المشترك " sens commun Le الذي ترجع جذور استعماله إلى عالم الاجتماع الفرنسي E. DURKHEIM في نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين. ومن المعلوم أنّ لـِ" دوركايم" موقفا مناهضا لمقولة الحسّ المشترك التي تعني تلك الأفكار و التصوّرات الرّائجة لدى العامّة و المشتركة بينهم، و رأى أنّ هذه الأفكار لا تقود إلى معرفة علميّة بل هي تُربِك الباحث َ و تغرقه في السّطحيّة والأوهام و بالتالي تمنعه من بناء معرفة علميّة ، لكنّ تيّار الأتنوميتودولوجيا أعاد الاعتبار إلى هذا المفهوم و رآه مختزنا لمادّة غزيرة بالإمكان تحويلها إلى معرفة علميّة، و هو ما يعني أنّ المعرفة العلميّة الموضوعيّة يمكن بناؤها انطلاقا ممّا يحمله العامّة من أفكار و تصوّرات حصلت لهم خلال تجاربهم المعيشة التي تمثّل تراثهم المحليّ.
في ذات السياق نجد عالم الاجتماع الفرنسي MAFFESOLI يتحدّث عمّا يسمّى بـ"القبليّة الجديدة" Le Néo-tribalisme 3 في إشارة إلى حركة العودة إلى أشكال العلاقات التقليدية التي بدأت تميل إليها فئات اجتماعية من المجتمعات الأوروبية، فمن الفرديّة إلى الجماعيّة، و من العقلانيّة إلى العاطفيّة، متّخذا مثالا من السّلوك السائد حاليّا بين شباب باريس المتّسم بالمحليّة و التّماهي العاطفي و الشعور القويّ بالارتباط ،كذلك نجد "جلبار دوران" Gilbert DURAND قد نقد بدوره المآل الذي عرفه الفرد في ظلّ الحداثة حيث غمرته جزر الذّاتيّة و حُرم من ثراء الحياة الجماعيّة يقول " إنّ حضارتنا العقلانيّة بتمجيدها للموضوعيّة تجد نفسها مغمورة بجزر الذّاتيّة المكبوتة وبالحنين إلى اللاّعقلانيّة " 4 .
لقد بدا أنّ التشبّث بمختلف أشكال التراث والثقافة الشعبية يعني من بين ما يعنيه ردّة فعل على مسار التحديث والعقلنة الذي طبع الحياة المعاصرة، فهذا المسار قلّص مساحة المتخيّل لدى الفرد و أنام حسّه الخيالي ودفع به إلى الكسل وجفّف منابع الإبداع الخـلاّق الذي يعطي للحياة معاني وهّاجة، يقول Georges BALANDIER في كتابه: "الانعطاف، السلطة والحداثة": "هناك توجه قويّ يمكن أن يؤدي ،إلى جانب تجفيف المتخيّل، إلى الابتذال الثقافي، معنى ذلك أن تنشأ ثقافة تنحو إلى التماثل والتجانس المتصاعد وهو ما سيدفع إلى إفقار الثقافة من اختلافاتها الأكثر ثراء ودلالة" 5 .
في علم التّاريخ نفسِه برز توجّه يُعرَف ب " التاريخ الإفرادي أو المصغّر " Micro Histoire يبحث في تاريخ المجموعات المحلّية الصغرى وتاريخ الأشخاص المحليّين المغمورين و ينبش في الأحداث المشحونة بالدّلالات التّاريخيّة التي صنعها النّاس العاديّون لأنّ التّاريخ الذي ظلّ سّائدا هو التّاريخ الرّسمي، التّاريخ العامّ ، أي تاريخ الأحداث المعروفة و الأشخاص المشهورين... .
ويسمّي بعض الباحثين المهتمّين بالتراث الشعبي وأشكاله " البقايا الثقافية " التي تواصل حضورها في معيش الأفراد والجماعات مأثورا شعبيا مميزين بينه وبين التراث، فالتراث هو المادّة الثقافية التي أنتجتها الجماعة و راكمتها ثم توقّفت عن استخدامها كلّها أو بعضها وأضحت مادّة تاريخيّة تراثيّة بينما يمثّل المأثور الشعبي إنتاج الجماعة الذي آثرته لنفسها من مادّة التراث بعد تعديله بالحذف والإضافة واستمرّت في تداوله واستخدامه إذ يمثل لها تحقيقا لوظيفة آنية دون إغفال لمنابعه وانتماءاته التراثية 6.
ونجد لمفهوم "البقايا" حضورا في تصوّر عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر Edgar Morin فهو يرى أنّ العلوم الاجتماعية تسترجع كل البقايا التي لا تستوعبها النظم المعرفية والاقتصادية و الديمغرافية ومن ثمّ تغطي المجال العاطفي النفسي للشخصية وإسناداتها الاجتماعية 7 ، من هنا تُعَدّ العودة إلى العناصر التراثية و ممارسة بعض الطقوس والعادات - التي تبدو في مظهرها لا عقلانية - في نظر السوسيولوجيا نوعا من السلوك المعقول و المشروع لأنها تضطلع بوظيفة سدّ الفراغات ورتق الاختلالات التي أفرزتها الحداثة في النسيج الاجتماعي.
هكذا إذن و نحن نحاول تناول مسألة مشروعيّة العودة إلى التراث نجد أنفسنا مدفوعين إلى إثارة مسائل من مثل: الحداثة ، التحديث و ما بعد الحداثة باعتبارها مسارات أفرزتها حركة المجتمعات البشرية التي توهّم البعض أنّها تتجه نحو الاستقرار عند ثقافة نمطية معولمة.
و انطلاقا ممّا سبق يمكن القول بوجود قاعٍ نظريّ فكريّ برز في العقود الأخيرة وأعطى لعودة التراث مشروعيّةً و مهّد الطريق لإعادة ترسيم البعض من عناصره في المعيش الاجتماعي الحديث، لكنّ السؤال المطروح: هل تخضع عودة التراث لعمليّات انتقاء و اصطفاء منهجيّة ؟ بمعنى آخر، هل يمكن أن تكون هذه الإعادةُ واعيةً، تُحاورُ التراث دون حرج من خلال تشجيع سلوك الابتكارية والإبداع الذي يتّخذ التراث الشعبي الأصيل مرجعية ؟ و إلى أيّ مدًى يمكن أن ينخرط مجهود حماية التراث في إطار منظومة نهضوية تحرّك الفاعلين نحو إعادة إنتاج المعايير التي يتميّز بها الإبداعُ عن التكرارِ والخلقُ عن الاستبدالِ والتغييرُ عن التخريبِ على حدّ تعبير مطاع صفدي ؟ 8 ، لكنْ في المقابل ، هل يمكن أنْ تُقابَل هذه المنهجيّة في التعامل مع التراث بارتياحٍ من قِبَل من يعتبرون التراث في كلّيته مقدّسا و أنّ تجديده لا يعدو أن يكون إلاّ اعتداءً على موروثٍ يتوفّر على شحنة رمزية؟ ألمْ يرَ البعض أنّ المطلوب ليس التجديد في التراث بل محاكاته والوفاء لخصائصه لأنّ في ذلك وفاءٌ للماضي وقيمه؟
يمكن القول إنّ التساؤلات المطروحة آنفا هي في الواقع إشكاليات زادتها العولمة إلحاحا على اعتبار أنّ طبيعتها ليست اقتصادية فحسب ، بل هي ذات مضامين ثقافية تجعل من الخصوصيات المحلّية مستهدفة باستمرار. فماذا عن التنوّع الثقافي في ظلّ العولمة؟ .
2- العولمــة و الخصوصيــّة الثقافـيّــة
لئن كانت أغلب الدّراسات تكاد تختزل العولمة في جوانبها الاقتصاديّة من مثل حركة التّجارة، رؤوس الأموال و إلى حدٍّ ما انتشار التكنولوجيا ووسائل الاتّصال، فإنّ الجانب الثقافي في علاقته بالعولمة لم يأخذ حظّه بالدّرس و التحليل ، و هذا التناول الناقص للعولمة هو الذي جعلها تظهر عند البعض و كأنّها قضاء و قدر أو حتميّة لا فرار من الاندماج فيها في كلّيتها أوْ رفضها تماما .لكنْ إذا تناولنا ظاهرة العولمة من زاوية ثقافية فإنّ نظريّاتٍ مثل نهاية التاريخ لـِ "فرنسيس فوكوياما " 9 وصدام الحضارات المتوقَّع لِـ "صموئيل هنتنجتون" HUNTINGTON يمكن أن تُثار. وعندما يتحدّث عالم الاجتماع البريطاني "أنطوني جيدتز" A. GIDDENS صاحب نظريّة الطريق الثالث 10عن "مجتمعات المخاطرة" فهو يعني تلك المجتمعات التي تتخلّى عن ثقافاتها المحلّية وتخاطر بتبنّي ثقافة جديدة غربيّة فرضتها عليها التحوّلات الحديثة، بهذا المعنى تصبح العولمة إذن ليست مجرّد حركة للسّلع ولكنّها سعْيٌ نحو ثقافة واحدة، شاملة يمكن من خلالها تعزيز عالمية الاقتصاد و الإعلام ، وهكذا يمكن أن تُقلب المسألة فتكون الأولويّة للثقافة باعتبارها العامل الحاسم في دمج المجتمعات و تسهيل عمليّة الاختراق الاقتصادي الرأسمالي لها فيما بعد.
لكنّ السؤال المطروح: هل يمكن الحديث عن مسار عولمة الثقافة و سيادة " ثقافة العولمة " في ظلّ واقع يؤكّد وجود طبيعة إنسانيّة واحدة و في الوقت نفسه يكشف عن تنوّع غير محدود للثقافات البشرية ؟.
هل يمكن القول إنّ ثقافة العولمة ما هي في الأخير إلاّ نهايةُ مسار فرض الثقافة الغربية و تكريسُ المركزية الثقافيّة ؟ أ لمْ يبدأ هذا المسار منذ حِقبِ الاستعمار المباشر عندما وقع الترويج لمفهوم " عبْء الرّجل الأبيض " White man' s Burden ؟ هذا الأبيض الذي تحمّل مهمّة تمدين المناطق النّائية و نشر الحضارة فيها، ألمْ يجعل هذا المسار الثقافة الأوروبية مركزا في نظر الكثيرين والثقافات المحليّة الأخرى أطرافا و هوامش تدور حولها؟ لكنْ في المقابل، ألمْ يُثبت التاريخُ فشل محاولات المسخ الثقافي التي تعرّضت لها البلدان المستعمَرة ؟ ، يتجلّي ذلك من خلال مظاهر المقاومة التي تُبديها الثقافات الشعبية المحلّية في مختلف المجتمعات التي كانت تعيش استعمارا مباشرا ، ألا يجوز القول إنّه ولئن أمكن عولمة الاقتصاد فإنّ عمق التنوّع الثقافي في المجتمعات البشريّة يجعل هيمنة ثقافة واحدة أمرا يكاد يكون مستحيلا؟؟ .
إنّ الإقرار بالتنوّع الثقافي و قدرة الثقافات المحلّية على الصمود أمام محاولات الدمج و التنميط يجعل مسألة المحافظة على الهويّة الوطنية رهانا متجدّدا في عالم ملتجّ متغيّر، و لعلّه من البديهيّ القول إنّ سؤال الهويّة في المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة ارتبط بظاهرة العولمة وصار هاجسا يثير نخب هذه المجتمعات التي انصرفت تنادي بإحياء تراثها وثقافاتها المحليّة محاوِلة ً رسم حدود الخصوصيّة ونقاط الاختلاف التي تميّزُ هذه المجتمعات عن المجتمعات الأخرى ، إنّها محاولة لجعل ثقافة تراثيّة مفعمة بالمواطنة الأصيلة تتعايش مع ثقافة عولمية زاحفة جامحة ، أو هي بالأحرى سعْيٌ نحو مواجهة تجلّيات العولمة من خلال التأكيد على خصوصيّةٍ يتّخذ مسار التثاقف و الحوار الحضاري من خلالها مشروعيّته لأنّ التثاقف لا يتمّ إلاّ بين أطراف متمايزة و متغايرة . و تجد هذه الفكرة سندا لها لدى الهيئات الدولية، فها هو تقرير اللجنة العالمية المعنية بالثقافة و التنمية يحمل عنوانا دالاّ و هو : " التنوّع الإنساني المبدع "، كما أوصت خطّة عمل المؤتمر الدولي الحكومي بشأن السياسات الثقافية من أجل التنمية ( ستوكهولم 1998 ) بضرورة إعداد سياسات ثقافية " تهدف إلى تعزيز التنوّع الثقافي من أجل ضمان التعدّدية الثقافية المستديمة والتنمية البشرية " 11 ، كذلك تواترت التأكيدات على أنّ العناية بالتراث يخدم مجتمع المعلومات كما ورد في خطة العمل المقدّمة للقمّة العالمية لمجتمع المعلومات ( جنيف 2003- تونس 2005 التي اعتبرت " التنوع الثقافي واللغوي أمراً أساسياً في تطوير مجتمع معلومات الذي يقوم على أساس الحوار بين الثقافات وعلى التعاون الإقليمي والدولي. وهو عنصر هام من عناصر التنمية المستدامة...."، و أوْصتْ الدولَ المشاركةَ في القمّة بـ "ـوضْع سياسات تدعم احترام التنوع الثقافي واللغوي والتراث الثقافي في داخل مجتمع المعلومات، والحفاظ على هذا التنوع والتراث وتعزيزه وتطويره مع الاحترام الكامل للهوية الثقافية...".
لا غرابة إذن في سعي مختلف البلدان نحو "إحياء" التراث المحلّي الذي يتمظهر في أشكال مختلفة من الممارسات و التصوّرات والمعارف والعادات والتقاليد والتعبيرات الفنية والمهارات والخبرات التقنية التي أنتجها وتداولها أبناء هذا المجتمع المحلّي أو ذاك 12 ومحاولة نقل بعضه من الشفوي إلى المكتوب ، ومن حالة الشتات إلى التجميع والتّبويب .
إنّ الهويّة كائن حيٌّ ، هي متغيّرةٌ و متجدّدة من داخلها ، عناصرُها و ملامحُها متبدّلة باستمرار بحسب التحوّلات التي يعرضها المجتمع 13 ،و هي تبدو ضامرة ً في حالة كمون في الظروف العادية الخالية من التوتّرات والمخاطر غير أنّها تخرج من طور الوجود بالقوّة إلى طور الوجود بالفعل عندما يستفزّها الآخر فتشتغل الذاكرة الجماعية و يسترجع المجتمع مقوّمات كيانه في مستويات اللغة و التاريخ و الدين والثقافة و القيم و التقاليد والمصنوعات... فتتبلور الشخصية الأساسية للأفراد، وتتحدّد هويّتهم المتمايزة عن هويّة الآخر حتّى و إنْ وُجِدت بعض نقاط الاشتراك والتشابه معه.
إنّ البحث في التراث بأشكاله المادية واللامادية هو سعي إلى بناء ذات جمعية وتوفير إطار تقْوَى فيه الروابط الاجتماعية و تنمو مشاعر الانتماء إلى جماعةٍ بشريةٍ ما تتقاسم ثقافة معيّنة توفّر بدورها الأساس لشخصية قاعدية خصوصية، ها هنا يمكن الحديث عن دور إدماجيّ يلعبه التراث فيكون بذلك أحد ركائز الهوية.
و إذا اعتبرنا أنّ جمع التراث و تدوينه مهمّة حضاريّة، متأكّدة و لا تحتمِل التأجيل فذلك عائد إلى الأسباب الثلاثة الآتية على الأقلّ:
- السبب الأوّل يتمثّل في أنّ التاريخ المحلي والتراث يواجهان في بعض المجتمعات خطر الاندثار بسبب عدم التدوين أو الحفظ. فكمْ من الأحداث التاريخية والشعر والحكايات والأمثال التي طواها النسيان وماتت بموت حفّاظها ورُواتها من كبار السنّ. فهؤلاء ( أعني كبار السنّ رجالا و نساءً ) يُعتبَرون خزّانا للتراث، و من الضروريّ أن تحدُث عمليّة نقل جيليّ للتراث بمختلف عناصره و مكوّناته على اعتبار أنّ التراخي في جمع التراث و أخْذِه من جيلٍ تَهرّمَ معناه إمكانيّة اندثار نفائسَ منه ، ألمْ يقل المثلُ " رجلٌ مسنّ يموتُ معناه أنّ مكتبةً تحترقُ " .
- السبب الثاني يعود إلى أنّ تدوين التراث و جمعه و إحيائه و صيانته في مجتمع ما معناه بقاءُ ذلك المجتمع محتفظا بصورته الحضاريّة بين الأمم، فالشعوب التي لا تدوّن تاريخها و تحفظ ذاكرتها هي شعوب مآلها الاندثار، فنحن لا نعلم من تاريخ الأمم و الشعوب التي عرفها الوجود البشري إلاّ تاريخ الأمم التي سجّلت تاريخها ودوّنت تراثها بصورة من الصور و نجهل كلّ شيء عن سواها حتّى لكأنّها لم تكن موجودة ممّا يدعو إلى القول بأنّ التاريخ هو الذي يُوجِد الأمم.
- المبرّر الثالث يتّصل بإمكانية أن يكون التراثُ قاعدةً لتنميةٍ مستديمةٍ بفضل ما يختزنه من تجارب راكمها الأوائل خلال صراعهم الطويل مع الطبيعة من أجل استنباط الطرق و الوسائل لتنمية القُدرات وتطوير وسائل العيش ، و لعلّ هذا ما عناه ذلك التقديم الوارد في الكتاب المخصص لاستعراض برنامج شهر التراث 2008 بتونس الذي اتّخذ شعار " الشباب و التراث " حيث جاء: " إن تشبع الشباب بتراثه يمكّنه بالإضافة إلى التحلّي بالشخصية المتميزة والمتوازنة من اعتماده كلّما اقتضت الحاجة مَعينا يغترف منه الفنون والمهارات التي تخوّل له الظهور بالتميّز والابتكار".
يمكن القول إذن - إجابة ً عن تساؤل طرحناه في بداية الورقة : هل أنّ محاولة إعادة الاعتبار للتراث هو قناة لحماية الهوية الوطنية أم نشاز في زمن العولمة ؟ - إنّ جمْعَ التراثِ و المحافظة عليه و تدوين تاريخ المجتمعات المحليّة هو خيار حضاري يتمّ من خلاله التعامل مع المادّة التراثية تعاملا عقلانيا يعادل بين ثنائية الاتّباع والإبداع فيبتعد عن هذيان العظمة ولا يسقط في عقدة الاضطهاد. ها هنا تبدو مسؤولية الشباب متأكّدةً في التوفّق إلى منهجيّة يتعاملون من خلالها مع التراث بعقليّة شعارها : نعم لمحاورة واعيةٍ ، هادفةٍ للتراث، لا لتقديس للتراث و لا لإقصائه.
الهوامـــــــــــــــــــــــش
1نفضّل استعمال عبارة " إعادة الاعتبار" على مصطلح " إحياء التراث" لما يتضمّنه الأخير من إيهام بأنّ التراث مات لفترة و نحن بصدد عملية إحيائه في حين أنّ الوقائع تؤكّد أنّ التراث لم يمت يوما وإنْ عرف في بعض الفترات تراجعا و فتورا أمام الانبهار بالمدّ الحداثي.
2 Plane (Jean-Michel): La gestion des ressources humaines, Flammarion, 2000,.
3Michel MAFFESOLI , Le temps des tribus: Le déclin de l'individualisme dans les sociétés de masse, Paris , Méridiens Klincksieck , 1988.
4جلبار دوران: "الانتروبولوجيا، رموزها أساطيرها، أنساقها" ترجمة مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت، ط1، 1991، ص 358.
5 BALANDIER (Georges)   : Le détour   : pouvoir et modernité, Ed. Fayard, Paris, 1985, p 219.
6انظر: صلاح الراوي: السيرة الهلالية بين الشفاهية والتدويين، دراسة تمهيدية في عزيزة ويونس، مجلة أدب ونقد، العدد 11، فيفري/ مارس 1985، ص 119.
7MORIN (Edgar)   : Sociologie, collection points, librairie Fayard, 1994, p 157.
8مطاع صفدي: عصر الاستشهاد الثقافي، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 13، ص 10.
9يقول فرنسيس فوكوياما و هو مفكّر أمريكي من أصل ياباني ولد سنة 1952 " إنّ ما نشهده ليس مجرّد انتهاء الحرب الباردة، بل إنّه نهاية التاريخ كتاريخ ، إنّها النقطة النهائية للتطوّر الأيديولوجي في الذهنية البشرية وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكل نهائي للحكم"، ينتهي التاريخ عند فوكوياما باكتمال الصراع و انتهائه نظرا لانتفاء الخصوم بعد انتصار الليبرالية.
10أنطوني جيدنز: الطريق الثالث، تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة مالك أبو شهيوة و محمود خلف، دار الرواد، طرابلس ، ليبيا ،1999.
11اليونسكو، خطة 2003-2007، ص 37، نقلا عن: محمّد نجيب بوطالب، العولمة و التنوّع الثقافي، مجلّة الحياة الثقافية،تونس، مارس 2008،ص 11.
12عبد الحميد حواس: آفاق المأثور الشعبي العربي، المجلة العربية للثقافة، العدد 36، السنة 18، مارس 1999، ص 10.
13محمّد نجيب بوطالب، العولمة و التنوّع الثقافي، مجلّة الحياة الثقافية ،تونس، مارس 2008،ص 6.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق