الثلاثاء، 19 مايو 2015

واقع التكوين الأكاديمي والبحث العلمي بالجامعة المغربية



واقع التكوين الأكاديمي والبحث العلمي بالجامعة المغربية
يمثل التعليم بمختلف أسلاكه، الأداة الفعالة لتحقيق التنمية بمختلف مستوياتها من خلال محاربة الجهل والأمية ونشر العلم والمعرفة وتنمية قدرات وكفاءات المواطنين على الإنتاج والإبداع، لذلك فهو مقياس أساسي لدرجة تقدم الدول والأمم. وتعد الجامعة الهيكل الأساسي للتعليم الذي يرتبط بالمجتمع من خلال علاقات تبادلية تسعى إلى تخريج نخبة المجتمع، لتساهم بدورها في تفعيل حركة الإنتاج والإبداع.
لكن الملاحظ أن الجامعة المغربية أصبحت تواجه مجموعة من التحديات، تعيقها عن أداء دورها المرسوم لها في تكوين نخبة المجتمع وتفعيل دورة الإنتاج والإبداع وضمان استمراراها بين الأجيال. على الرغم من خضوعها لعدة إصلاحات آخرها مقتضيات الإصلاح الجامعي الذي تجلى في القانون المنظم للتعليم العالي 01.00 الصادر سنة 2000، وتتجلى أزمة الجامعة المغربية على مستوى مخرجاتها من الموارد البشرية التي تفتقر إلى الخبرة اللازمة والفعالية المنتجة، مما يجعلها غير مؤثرة في واقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويرجع الأمر إلى الخلل الذي تعاني منه منظومة التكوين الجامعي والبحث العلمي لغياب برامج واضحة وفعالة وذات أهداف حقيقية مرتبطة بسوق العمل وحركية الإنتاج.
إن منظومة التكوين الجامعي والبحث العلمي توجه رهانا معقدا، إذ تبدو عاجزة عن توفير إطارات فنية عملية مؤهلة لولوج سوق الشغل ومنتجة وفعالة في ميدان الإبداع والتجديد المعرفي والتقني، ما يجعلها في حاجة أساسية إلى برامج أساسية واسعة فعالة تتجاوز نظام التلقي السلبي والعمل الفردي ومنطق التدريس إلى منطق التكوين والتأطير والإشراف الذي ينمي الطاقة الذاتية والقدرة على المشاركة والإنتاجية والفعالية، ويجعل من الجامعة مجالا منفتحا ومرصدا للتقدم العلمي والتقني وقبلة للباحثين ومختبرا للإبداع والاكتشاف.
لقد بذلت مجهودات كبيرة على مستوى تحسين المردودية الداخلية للجامعة المغربية من خلال إعادة تنظيم الأسلاك الجامعية، وتطوير المناهج التعليمية ونظم التقويم والامتحانات، وتشجيع البحث العلمي. لكن تقرير المجلس الأعلى للتعليم الصادر سنة 2008 وقف على عدة اختلالات بنيوية، ما استلزم إزائها الشروع في تطبيق برنامج استعجالي لمعالجة تلك الاختلالات، وهمت تلك المعالجة بالأساس ملاءمة العرض التربوي الجامعي مع ما تتطلبه البرامج التنموية الكبرى للبلاد من كفاءات، من خلال تطوير المسالك التقنية والمهنية للرفع من عدد الطلبة المسجلين بالمسالك التخصصية مرتين أو ثلاث، وتوجيه 25 في المائة من طلبة سلك الإجازة نحو الإجازات المهنية و50 من طلبة الماستر نحو الماستر المتخصص. والرفع من نسبة الحصول على الشهادات إلى 69 في المائة في أفق 2012 بدل 45 في المائة سنة 2008، وتخفيض نسب التكرار والهدر إلى أقل من 12 في المائة بدل 22 في المائة سنة 2008، والتحفيز على التفوق الجامعي من خلال خلق منح التميز، وتحسين حكامة بنيات البحث العلمي والرفع من مردوديتها بحيث سيتم اعتماد 92 في المائة من هذه البنيات داخل الجامعات خلال 2012 مقابل 69 في المائة سنة 2008، ورفع الإنتاج العلمي بالجامعات إلى ما يقارب 3500 منشور علمي بمجلات دولية مصنفة سنة 2012، ومناقشة حوالي 2300 أطروحة دكتوراه سنة 2012، وإنجاز 1660 بحث تشاركي مع المقاولات خلال سنوات 2009 – 2012، وتوفير موارد بشرية مؤهلة من خلال تعزيز قدرات وكفاءات الأساتذة الباحثين وموظفي التعليم العالي، بحيث سيتفيد أزيد من 12 ألف أستاذ باحث من تكوين وتدريب بالخارج ما بين 2009 – 2012 في حدود 25 في المائة سنويا.
بالرغم من البرنامج الطموح الذي تبناه المخطط الاستعجالي (2009 – 2012) لمعالجة الاختلالات البنيوية التي  تنخر جسم التعليم العالي بالمغرب، إلا أنه وبعد حوالي سنتين من انتهاء المخطط الاستعجالي، نجد أن واقع التكوين الأكاديمي والبحث العلمي بالجامعة المغربية لم يتطور كثيرا نحو الأحسن، بل ساءت الوضعية أكثر وأصبح الكل بما فيها الوزارة الوصية تبحث عن مخرج من خلال تسطير إصلاح جديد لن يعدو أن تكون نتائجه كسابقيه، وفي هذا الصدد مازلنا نرصد عدة اختلالات تعاني منها منظومة التكوين الجامعي والبحث العلمي بالمغرب منها:
ـــ عدم تلاؤم منظومة التكوين الجامعي مع متطلبات سوق الشغل: إذ نشهد ضعف ولوج المسالك التقنية والمهنية، ومحدودية سوق الشغل على استيعاب خريجي تلك التكوينات برغم حجمها الضئيل.
ـــ تعثرات ونقائص برامج التكوين الجامعي: والذي يتجلى من خلال ارتفاع نسب الهدر والتكرار الجامعي خاصة في السنة الأولى، حيث تصل نسبة التكرار إلى 17 في مجموع المسالك، و30 في المسالك ذات الولوج المفتوح، كما أن نسبة كبيرة من الخريجين تتعثر في النجاح في المباريات وولوج الوظائف خاصة في القطاع الخاص.
-               ـــ ضعف مردودية البحث العلمي للجامعة المغربية: ويلاحظ من خلال ضعف الإنتاج البحثي سواء في شكل ابتكارات أو منشورات علمية، وقلة الأبحاث والدراسات التي تقدمها الجامعة لفائدة الفاعلين الاقتصاديين، قلة طلبات القيام بخدمات من قبل مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية لانعدام الثقة في القدرة البحثية لمؤسسات التعليم العالي، وضعف الدور الثقافي للتعليم العالي؛ رغم جهود الأساتذة في هذا المجال، من حيث قلة المشاركة في المناسبات الثقافية، وغياب تام للوسائل التثقيفية التي تمكن الجامعة من القيام بدورها نتيجة هيمنة المقاربة الأمنية في التعامل مع مكونات الحقل الجامعي.
إن الوضعية التي تعيشها منظومة التكوين والبحث العلمي بالجامعة المغربية تقف وراءها أسباب متعددة بنيوية ومتداخلة مع الوضع العام للمغرب، لكن سنركز فيها على ما يتعلق بالبنى الجامعية فقط، ومنها:
-                   ضعف تكوين الأساتذة والإداريين خاصة الملتحقين الجدد، فبعد فقدان الجامعة المغربية أبرز كواردها بسبب المغادرة الطوعية أو التقاعد لم تعوض بذوي كفاءات عالية، نتيجة هيمنة الفساد والمحسوبية والزبونية على توظيفات التعليم العالي، وعدم وضوح الإطار القانوني لأطر التعليم العالي من حيث التوظيف والترقية والتكوين، وضعف الحوافز المقدمة للأساتذة الباحثين وسوء أوضاعهم الاجتماعية، واللجوء إلى التعاقد مع أشخاص دون مستوى ملائم للتعليم العالي، وعدم إخضاع الأساتذة الباحثين لتدريب بيداغوجي مسبق على غرار باقي الأسلاك التعليمية.
-                   قصور واضح في المناهج التعليمية والبرامج الدراسية القائمة بالجامعة المغربية، رغم مجهودات بعض الأساتذة الباحثين، إذ يغلب عليها الاستنساخ من المقررات الأجنبية خاصة الفرنسية، ولا يتوافر فيها أي إبداع أو خصوصية، وتتسم بالرتابة والجمود والتكرار وتظل قائمة لسنوات عديدة دون تنقيح أو تجديد (سوى تجديد الغلاف للتسويق)، ولا تتميز بالمرونة اللازمة واللحاق بركب آخر الاكتشافات العلمية والأبحاث المعرفية. إضافة إلى غلبة الطابع النظري التجريدي وقلة المحتوى الميداني التطبيقي المتلائم مع متطلبات سوق الشغل، ما يجعلها تركز على الحفظ والتلقين وشحن الأذهان بالدروس والعمل الفردي، بدل التركيز على الإبداعية والمشاركة الذاتية للطلبة والعمل الجماعي وإشراك مختلف الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في التأطير والتكوين.
-                   قلة العدة البيداغوجية وعدم تناسب البنيات التربوية المتوفرة والأطر البيداغوجية والإدارية مع الزيادة المطردة في عدد الطلبة سنويا، بل وغياب التوظيف الأمثل والمناسب حتى للمتوفر من تلك العدة التي يعلوها التقادم والغبار بسبب نقص الموظفين وهيمنة العقلية البيروقراطية والأمنية في التسيير، والتركيز على الجوانب الشكلية والمادية (مثلا حجم الإنفاق على الأثاث والديكور والزخرفة والحدائق) بدل التركيز على تطوير المناهج والمعدات البيداغوجية.
-                   قصور في نجاعة البحث العلمي بالجامعة المغربية: فرغم المحاولات المبذولة لإعادة تنظيم وهيكلة البحث العلمي والرفع من جودته وتنويع مجالاته وإدماجه في منظومة التعليم العالي، إلا أن واقع البحث العلمي بالجامعة المغربية مازال يعاني من عدة مشاكل؛ نتيجة غياب سياسية وطنية حقيقية للبحث العلمي والتقني، وغياب أجهزة مستقلة ذات سلطة تقريرية في مجال التخطيط للبحث العلمي وتخطيطه وتنسيقه، رغم وجود المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي، وضعف تمويل البحث العلمي، وقلة عدد الباحثين بالنسبة لعدد السكان وسوء وضعيتهم الاجتماعية والإدارية، وطغيان التصور الإداري على بنيات البحث العلمي المتواجدة بالجامعة المغربية وعدم فعاليتها نتيجة لضعف كفاءة القائمين عليها وغياب تصورات واضحة لعملها وبرامج معدة لأنشطتها مما جعلها تتسم بالارتجالية والعشوائية وتغليب منطق الشخصنة والزبونية والحسابات الإيديولوجية والسياسية.
وفي نظري ينبغي إعادة النظر في منظومة التكوين والبحث العلمي بكيفية جذرية بالجامعة المغربية، وذلك من خلال مراجعة مناهج التكوين الجامعي الحالية ومحتوياتها من طرف متخصصين ينتمون لمجالات مختلفة يؤطرها فرق بحث مكونة من الأساتذة الباحثين بكل جامعة تكون تحت إشراف المجلس الجامعي، وصياغة برامج جديدة لمختلف الشعب والتخصصات تراعي الأهداف المرجوة من التكوين ومتطلبات سوق العمل وضوابط الملف الوصفي للمسالك والوحدات. والمطلوب من كل جامعة أن تتولى وضع مشروع خاص بها لأنشطة البحث العلمي بدل تركها مشتتة بين مؤسساتها بالطريقة الحالية، من خلال إعادة هيكلة بنيات البحث القائمة ضمن رؤية استراتيجية تراعي إمكانياتها المادية والبشرية، وتستجيب لخصوصياتها الجهوية ومتطلبات محيطها الاقتصادي والاجتماعي، مع العمل على تنظيم البحث وفق محاور أساسية وتفعيل الشراكات مع الفاعلين الجهويين والمحليين في شتى المجالات وفق برامج تعاقدية مضبوطة، وتطوير أقطاب الجودة المرتبطة بحاجيات الجهة لضمان الإشعاع العلمي والثقافي للجامعة، وتشجيع البحوث العلمية الأساسية وتثمين البحوث المنجزة والعمل على نشرها واستغلالها لفائدة تنمية المحيط الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تولي جهة مختصة توكل لها الصلاحيات التامة تابعة لمجلس الجامعة لتنظيم البحث العلمي وتأطيره وتوجيهه وتثمين البحوث وعقد الشراكات الوطنية والدولية وتجميع الوسائل التقنية والموارد المتاحة وفق استراتيجية بعيدة المدى، مع تفعيل آليات التقويم والمتابعة والمحاسبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق